قلق التجاور في (المُحَلّى بـِ هل)

ثقافة 2021/05/30
...

  عادل الصويري 
يكتب الشاعر مهدي النهيري في مجموعته الشعرية الصادرة حديثاً (المحلى بـِ هل) مقدمة يعَبِّرُ فيها عن حزمةِ قلق يرافق تقدم التجربة على عدة مستويات: منها الخوف من رعب غير مبرر من بلوغ الشاعر سن الأربعين، ومنها قلق فني جمالي يتمثل في اهتزازِ القناعات الشكلانية لشاعر يريد الاستقرارَ – من دون جدوى – على شكل قصيدة التفعيلة، بعد أن كان آخرُ إصداراته (أنا ما أغني) كتاباً تفعيليّاً بامتياز حسمَ الشاعرُ أمره وقتها أن لا يصدر كتاباً يبتعد عن سياقات التفعيلة واشتراطاتها الفنية. 
 
غير أنه أدركَ أنَّ {كل قرار يتخذه الشاعرُ قرارٌ قابلٌ للمراجعة والنقض والإلغاء}.
وهذا هو الذي حصل فعلاً، فلا قناعات ثابتة في الشعر؛ لتأتي مجموعته (المُحَلّى بـِ هل) بعد خمس سنوات من الصمت الشعري مزخرفةً بقلق التجاور، حتى وإن كان تجاوراً يدورُ في فلكِ الإيقاع الذي يخضع الشاعر لقصيدة الشطرين تارةً وإن رآها بقلقه {طعاماً غير مرغوب به}. وتارةً أخرى يجعلُهُ القلقُ مستريحاً إلى التفعيلة التي أوقعته في شباكها شاعراً قلقاً.
وتبدو عناوين قصائد التفعيلة في كتاب مهدي النهيري هذا غريبةً للقارئ، كونها جاءت من كلمة واحدة خصوصاً مع التحديث الذي يشتغل عليه الشاعر داخل متن القصائد، والتنويعات الموضوعية داخل القصيدة الواحدة، وكأنه يؤكد بعض الآراء النقدية التي تذهب إلى أن العنوان في القصيدة الشعرية لا يكفي، بحيث من الصعوبة فتح مغاليق القصيدة عبر عنوانها؛ لذلك لابد من الانهماك في القصيدة كلها.
فالنهيري اختار لقصائده عناوين سهلة كاشفة يشعر القارئ معها أنه أمام قصائد بسيطة، لكنه سرعان ما يكتشف العكس.
جاءت عناوين القصائد أحادية الكلمة هكذا: (ذبول/ رقيم/ ورقة/ البيت/ عازفة/ اعتذار/ قول/ وتر/ رنين/ دخان/ تحريض/ مهمل/ تردد/ تجربة/ ظن/ رماد/ ليل/ خطى/ هجس/ شطر/ مواربة/ فتوى/ تفضُّل). وهذا المنحى في اختيار العناوين أحادية الكلمة ليس جديداً على الشاعر؛ فقد مارسه في مجموعته {التفعيلية} السابقة (أنا ما أغنّي) ما يُدلل على قصدية معينة تجعل القارئ متأرجحاً بين بساطة العنوان، ومتن القصيدة ذي المدلولات العميقة التي تقولُ معنىً وتوحي إلى آخر: (من قالَ عنها إنَّها امرأةٌ/ هي امرأةٌ مُلَحَّنةٌ توحَّدتِ الفصولُ بجسْمِها/ متخيِّلاً مرآتَها بعد اكتشافِ النارِ في المعزوفةِ الأولى/ وقبل تحوّلِ التاريخِ في نظرِ الأميرةِ سيرةً ممحوَّةً/ فإذا أرادت أن تُجامِلَهُ فقد تختارُهُ سطريْ مقدمةٍ/ لِتعبرَ بعدَ ذاك كأنَّ هذا كان قنطرةً). قصيدة عازفة ص26 - 27
وإذا كان الشاعر قلقاً من تجاور قصائد العمود مع التفعيلة في كتابه، فإنَّ هذا القلق تسلل لإحدى قصائده (قصيدة وتر ص117 - 118) التي بدت عموديَّةً من بحر البسيط، لكنَّهُ سكبَ نكهةَ قلقِهِ عليها حين أضاف شطراً كاملاً أو أكثر من ذات البحر على كل بيت فيها بحيث تحولت الأبيات إلى مقاطع؛ لتكون قصيدة عمودية تفعيلية في آنٍ معاً مستعيناً بآليةِ نثر الكلمات أفقياً؛ لتأكيد المسعى: (لا تغسلي شجرَ الذكرى/ هنامطرٌ مُحَبَّبٌ صرتُ أدعوهُ إلى جسدي/ إذا عَطِشْتُ إلى ماضي لياليكِ/ ضعي قليلاً مِنَ الأيامِ/ وانتظري يَديَّ/ هاكِ اشهدي الأيامَ كيفَ جرتْ من سوئها/ للأغاني بين أيديكِ/ أصابعي تتهجّى أن تشيرَ/ متى أرى المدينةَ/ هذا النَهْرُ يفصلُني عنها/ وإن كنتُ محتاجاً إلى امرأةٍ صحراءَ/ تشبهُ وجهي في منافيكِ).
في القسم الثاني من كتابه؛ والذي خصص اكثرهُ لقصائد الشطرين؛ لاحظتُ اهتماماً جدياً من الشاعر في اختيار عناوين القصائد التي بدت مثيرة جاذبة، وكأنَّ قلقه من التجاور حسمه لصالح الموروث الذي لا استغناء عنه عندما يتعلق الأمر بالشعرية، حتى وإن انحاز – كما قال في مقدمته – لسياقات واشتراطات قصيدة التفعيلة.
وكان التنوع الايقاعي حاضراً في هذه القصائد لإبعاد الرتابة فجاءت على بحور (الطويل/ البسيط/ الكامل/ الخفيف) مع التأكيد على الاستغناء عن الشكل التقليدي لكتابة العمود، فضلاً عن آلية التدوير التي تسمحُ للجملة الشعريةِ الانسيابَ بعيداً عن الحاكمية الكلاسيكية للوحدة الوزنية مع نثر الكلمات أفقياً: (وحقيقةٍ من صُنْعِ ليلِكَ/ أُمِّ كلثومٍ وشايٍ باردٍ ودفاترِ/ وعويلِ ذاكرةٍ/ تركتَ ضِفافَها ترتابُ بينَ شعائرٍ وعشائرِ/ وخرجتَ منها للقصيدةِ/ أنتَ منفضةُ الكتابةِ/ أو رمادُ الخاطرِ/ فهناكَ يختلطُ الدُخانُ/ فلا ترى إلاّ دوائرَ تُمَّحى بدوائرِ..) قصيدة: الليل ص67 - 69"
لقد أكد مهدي النهيري في كتابه على أن الخيال خلّاقٌ كبيرٌ، يمكن له إعادة ترتيب اليوميات القلقة وفق صياغات جديدة مدهشة تستوعبُ بطاقتِها المرئيَّ واللامرئيَّ بذات المزاج الشاعريِّ الذي يبدو من ترفهِ قلقاً من تقادمِ أرقامِ السنوات.