محاربو قوس قزح.. الواقع على حافة الانهيار

ثقافة 2021/05/31
...

  حسن الكعبي 
 
وضع ابتر في كتابه المهم (الفنتازيا مدخلا للواقع) فهما عميقا للفنتازيا بوصفها تكنيكا في رؤية الواقع الذي يسعى للانفلات عن التصنيف والمعاينة بوصفه واقعا جانحا، وفوق قدرة الخيال وبمعنى اخر، ان هذا التكنيك هو الحل الأمثل في قراءة مضاعفات الواقع، وهذا ما يفسر الفهم العميق للواقع في المقاربات الروائية التي اعتمدت الفنتازيا تكنيكا اساسيا في بناءاتها السردية مثال (بورخس ويوسا وماركيز واخرين) ممن اعتمدوا الفنتازيا اساسا في مقاربة الواقع واحتمالاته الجانحة، فاحتمالية عودة الموتى او تشفيرات الدم بوصفه دلالة على الموت كما في رواية (مئة عام من العزلة) او حديث الرأس المقطوع كما في رواية (ابطال وقبور لارنستو سابتو)، هذه الاحتمالية لا يمكن تقبلها من قبل القارئ مهما كان صبورا، الا اذا تفهم انه ومن دون هذه الاحتمالية لا يمكن فهم الواقع الذي يسعى الراوي الى تقعيده ضمن مساحاته السردية.
من هذا الأفق السردي ينطلق الراوي (اي دي هارفي) لبناء سردية (محاربو قوس قزح) التي نقلها الى العربية الشاعر (رعد زامل) والصادرة عن دار نينوى للدراسات والنشر في العام 2017، معتمدا الفنتازيا لكن في سياق تضعيفي اساسا في بناء سرديته الخيالية التي تتحدث عن خروج رجل من السجن يحلم بالعودة الى واقعه واستثمار حريته المسلوبة نتيجة سجنه لخمسة اعوام لكنه يتفاجأ بالمتغيرات التي طرأت على الواقع ، حيث الاوبئة تحاصر المدينة وهنالك حظر شامل لكل مداخلها وان المدينة دخلت في شتاء أبدي فالزمن السردي يبدأ في شهور ايار وحزيران وتموز وآب التي يشير الى انها وخصوصا آب اشد الشهور بردا، كما يجد ان حبيبته ايموجين قد ماتت بسبب الوباء ولكنها اعيدت الى الحياة عن طريق تجارب سريرية لزرع الادمغة.
يحاول ان يتصل بهذه المخلوقة التي تعيش بجسد حبيبته لكن بنظام تفكير مختلف لا يتعرف على الاشياء من حوله، وفي مسعاه لتذكيرها يكتشف انها لا يمكن ان تكون حبيبته ايموجين وان دخولها لجسدها هو ضمن تجربة ألعاب الاستعمار الجديدة في تصفية الاجساد وتركيب ادمغة لها تنتج مخلوقات جديدة تقع بين الآلية والبشرية، لكنه يستطيع اقناعها بالهرب من هذا الواقع واختبار واقع اخر، وتبدأ الرحلة باكتشاف مناطق اخرى هي عبارة عن الكون الحضاري الآخذ بالانهيار. يستعرض الراوي في سياق هذه الرحلة العجيبة انهيار الحضارة الانسانية ودخولها الى منطقة الصراع بين جميع المخلوقات البشرية منها او الحيوانات وحتى الحشرات التي يتعلم منها الانسان درسا فلسفيا في تطوير آليات الاستعمار، والحقيقة ان الروائي يجهد كثيرا لتشبيح شخوصه واستظهار المفاهيم الفلسفية التي تعج بها الرواية، لكنها مفاهيم تذهب باتجاه استظهار التشاؤم كمفهوم متسيد وكامن في الواقع وفي المستقبل اذا كان هنالك ثمة مستقبل، فالروائي وعلى لسان ايموجين يشير الى احتمالية عدم وجود مستقبل تستقر عنده الانسانية او انها ستتساير ضمنه (لقد تعلمت كم يتعذر على البشر ان يكونوا ممثلين وملقنين، ولأي مدى بوسع المرء ان يكون حرا، غير انكم معشر البشر لستم جاهزين بعد لفهم ذلك، ربما في يوم ما وبعد زمن طويل في المستقبل اذا كان هناك ثمة مستقبل).
يوغل الراوي في تشبيح شخوصه وجعلها سياقا حاضنا للمقولات التي يسعى الى افشائها ضمن مساحات السرد، بدءا من بطل العمل الذي يجرده من اسمه فهو بلا اسم وبلا ماض يسهم في تطوره كبناء سردي معتمد في الروايات بشكل عام، بل ان الشخصية هي بلا مستقبل ففي خاتمة الرواية تخاطبه ايموجين (لن أنساك مطلقا آسفة لأنك لن ترى طفلنا)، يتدخل الراوي ليعمق هذا التشبيح بقوله ثمة شيء ما قد حدث بينهما تلك الليلة على الجبل، فسير الرواية على منوال امتزاج الحلم بالواقع يضع الشخصيات ضمن خطوط الشك بواقعيتها، وهذا ما يسعى اليه الراوي الفعلي لتأكيد مقولاته بمعنى ان الروائي يشبح الشخصيات لتكون سياقا حاضنا للمقولات الفلسفية حول الانهيار الذي سيلحق بالحضارة البشرية.  
إن ايموجين أيضا تأخذ حصتها من التشبيح بعد ان وجدت طريقة تكون من خلالها بشرا (لقد وجدت طريقة أخرى لأكون بشرا). لكن الراوي يختتم روايته بإشارته (ان المرأة التي كانت هي ايموجين كامبيل، رفعت وجهها وقد توهج كزهرة جديدة وللمرة الأخيرة انفرجت شفتاها تحت شفتيه لتمنحه قبلتها الأخيرة).