عن كتاب الأوراق وأخبار المحدثين

ثقافة 2021/05/31
...

 ياسين طه حافظ
الصولي، أبو بكر محمد، أحد فضلاء المشاهير في زمنه ومن العالمين بأخبار الملوك والخلفاء ومآثر الأشراف وطبقات الشعراء... وكان مقرباً من الخلفاء مقبول الكلام عندهم. ما يهمنا من هذا الكلام أنه شخصية ثقافية ملم بشعر زمنه وهو شاعر امتدح من استظل بهم من الخلفاء.. معنى الكلام أننا بإزاء مرجع يمتلك وثائق عن زمنه، الزمن الثقافي، أو الادبي حصراً.
 
كتابه الأوراق – وفي الجزء المخصص لأخبار المحْدَثين من الشعراء، يمنحنا آمالاً بكشف ما يخفى من تلك الحقبة من رجل متخصص مستمع، قارئ وشاهد عيان. صحيح ان مؤلفات الصولي، كما توصف، طريفة ينحو فيها منحى مؤلفي عصره وتظهر فيها شخصيته وكثيراً ما يتحدث عن نفسه في كتاب الأوراق ويدوِّن أحواله مع الخلفاء والوزراء... لكنها كتب في الادب وفي ثقافة زمنه.
إذاً الشخصية ليست أساساً شخصية عالِم ولكنه شخصية طريفة. ثانيا أنه لا يتميز أو ينماز في التأليف ولكنه ينحو منحى مؤلفي عصره. ثالثا ان همّه – أو سبيل عيشه، بأنه كان يدوِّن (أحواله) مع الخلفاء والوزراء. 
أنا لا أتوقف عند «كان يتحدث عن نفسه» فهو شأن الأدباء، لا ينسون الحديث عن أنفسهم والزهو بها حتى في المآتم.. لكني أسأل كيف تحدث عن نفسه؟، وفي القول كان يدوِّن أحواله مع الخلفاء والوزراء. أي مع أصحاب (المال) و (السيف)، كيف دوَّن تلكم الاحوال الممتحنَة، المضطرة، الطامعة والحذرة والخائفة أيضاً؟. 
أما كان مفترضاً أن نكون أمام حديث، وأمام قصائد إنسانية وفصول من الكتابة أو من الشعر مؤثرة، نعيش أمجادَها وقلقها واحزانها أو مباهجها حتى اليوم؟، إن عبارة ينحو منحى مؤلفي عصره، لا تبقي امتيازاً. وإذا كان ذا علم وفهم وطريفا مقبول المنادمة، فتعني أيضاً أنه لم يكن شخصية عميقة ذات رصانة وهم. «خفة الطبع» هذه أو رخصه ليست جديدة علينا، لا في ما قرأنا ولا في ما نعايش ونرى اليوم، فأمثاله من المصلحين والفقهاء في حضرة صاحب المال والنفوذ، حاضرون، فأين الامتياز واين الكِبر الذي يصحب المعلم ويعطي المعرفة احترامها؟، هي تُستَطرَف، نعم، وهو يرحَّب به ويُكرَم، نعم، وقد يكون صاحب مفارقة ونكتة، نعم. لكن أليس من حق الناس وحق الادب والثقافة والعلم، ان تجد كشفاً اجتماعياً، إشارة ذكية لمّاحة لفساد وسوء وظرف سيء صعب؟، ولا حتى وجع ذاتي محترم أو أسى إنساني مما نحترم وما يمسّ مواجع فينا؟. 
والجانب الأهم وهو موضوع الكتاب، المهم معرفياً عاماً وأدبياً، لا يطمح الكاتب فيه الى دراسة فنية ولا الى درس لغوي كما يؤمل منه، ولكن كل اخبار المحدثين حيث الظواهر الجديدة والغريب أو «النشازات» في رأي، وحيث ننتظر منه ان يكشف لنا التفتحات الجديدة لأجيال خارجة عن العام والسائد نحن لا نجد إلا أخباراً «طريفة»، إلا كلاماً نبتسم له أو يمس غرائزنا.. الصولي، ليس شخصية اعتيادية لنتجاوزه فقد تتلمذ على جماعة كبيرة من المحدِّثين والفقهاء والأدباء والشعراء، أمثال المبرد وثعلب والسجستاني وروى عنهم كما روى عن أرسطو وجالينوس وبعض ملوك اليونانية. والمسألة الأخرى أنه في الأوراق روى، كما يقول، عن الشعراء المغمورين وراعى الإحاطة بشعرهم.. 
هذا الكلام يحرضنا أكثر على الطمع بكشف للشعر خارج دوائر الدولة ودواوين الوزراء. فخارجهما نجد البروق متميزة السطوع. وهنالك يمكن، القول، الشعر! وإذا فهمنا من المجمل انه أراد المرور بشعراء غفل، فعلى هذا الفهم اعتراضان، الاول انه كان يتحدث ويروي لخليفة او لوزير وفي حضور من هم على بينة، ولا يبدو أنهم يجهلون عمن يروي او عمن يتحدث. ثانيا من يروي عن شخصية مجهولة لا بد من رواية فيها امتياز وتفرد. وأياً كان المروي عنه، لا بد من اظهار اهميته الشعرية وانه مهم لكي يروى عنه. 
لكن المسألة في رأيي أكبر وأوجع من ذلك. فهي حال الاسترضاء والتذلل الذي يستوجب بين ما يستوجب تفاهات تسر الخليفة او الوزير. وهكذا نحّى العالم الجليل للأسف، منه ومنا، علمَه وجلالة ليقدم للخليفة او للسلطان كتاب تفاهات وطرائف وقصائد بؤسها أكثر من أهميتها. فأضرت بأولئك الشعراء المحدثين المغمورين أكثر مما نفعتهم. 
وقد يتطلع القارئ الى تفاصيل ما قاله وكتب، وليس لنا غير أن نقول: لا يتعدى ما ذكره طرفةً عن جارية او غلام او مجاملة مقرفة واضحة الكذب. وما دمتم تريدون أمثلة فليكن مثالاً طريفاً ايضا يمنح بعض الرضا فلا نبتعد عن روح الكتاب واهتماماته. اما ما وراء هذا المثال فكثير مما هو أقرب للجهل والبؤس مما هو للثقافة الجليلة والعلم. لكم هذا الشاهد الذي ستأسف له أيضاً بالرغم من طرافته وأننا ربما نبتسم له: 
«جار «ابان» ومولاه اشترى غلاماً تركياً. شاعرنا، ابان، كان يهواه ويخفي ذلك عن مولاه. فقال فيه: 
ليتَ، والجاهلُ من غُرَّ بليتْ
نلتُ ممن لا أُسمّي وهو جاري بيتَ بيتْ
قبلةً تنعشُ ميْتاً إنني حيٌ كميتْ
لا اســــميهِ ولـــكـــن هــــو فـــي كــيتٍ وكــيتْ..»
هذه واحدة من «الطرافات» التي أفسدت الشعر وهبطت بالثقافة واضاعت الحقائق الصعبة التي تخفى وراء السفاهة والاكاذيب. الحقيقة الموجعة للجميع، للمؤلف الجليل ولنا وللأجيال، ان علماء ومفكرين وشعراء واهل فن يضطرهم كسب الخبز ليمثلوا دور الشحاذ الطريف او البهلول.