بيت الخالات ــ تشيؤ الأسئلة

ثقافة 2021/06/01
...

  كمال عبد الرحمن
 
في مقصدية اللاوعي تبتكر الأسئلة تشيؤها، وتتوحش الفضاءات في دهاليز الأنفس المحشورة حشرا في قيعان الملل، السؤال الذي لاجواب له هو أعظم الأسئلة،، لذلك يسمو بنا اللاوعي أحيانا سمواً عظيما في الخواطر، حين يوهمنا أن نكون في مراكز عالية من الرياسة والعلم والرقي، بل هو يعقل ذلك في الأحلام، لأن نزعة الرقي لن تفارقنا حتى في أمراضنا، بل نحن عندما نفكر بالشر، إنما نرمي بذلك الى ترقية أنفسنا، فاللاوعي بالمعنى الوصفي وليس الدينامي هو الشيء الكامن قبل الوعي، والذي يستطيع أن يظهرفي الوعي بسهولة اذا توفرت شروط معينة، أما ما هو لاوعي بالمعنى الدينامي فهو الشيء المكبوت الذي يجد مقاومة تمنعه من الظهور في الوعي.،  تنهض قصة (بيت الخالات) للسارد الرائي نزار عبد الستار على تعالق اللاوعي مع حاسة التشيؤ، إذ تتيبَّس الأنفس الموتورة تحت أضالع (أحلامها وأوهامها)، وتبدأ الأسئلة: ((وكن في لياليهن المتهالكة بلا قسمة أو نصيب، يسألن مرآة الصبر، بتحريض من تحفيات دمر سمعتها باعة سوق الأربعاء، فترد بصور جماعية من معارك مستهلكة، نسي أن يعدلها التاريخ المحلي الجديد))، فالتوحش واضح في الأنفس التي خلخلها الزمن بفعل ترادف سيل من الأسئلة التي لاجواب لها (متى. أين. كيف)؟، أسئلة مُرّة تتماهى مع آليات تفعيل التوحش، والتوحش هنا حالة من التعالق المضاد مع المأنوس، لا تدهم إلا قلة من الناس غارت في مجاهيل صحراء اللاوعي، ثم لاتلبث أن تنبت لها رؤى منبعثة من فضاء هذا التوحش.
الخالات: الفضاء البيتي المكنون في صيغة مبالغة، يجتمعن على ظاهرة تأسيس الهباء، سوى ما تيسّر لهن في الخلوة الفائضة عن الزمن، إذ تتكرر الصورة اليومية بلا هوادة:
((في أصيلهن المتحفظ، يسيل الظل بعيدا عن مشارف أوقاتهن الطيبة، ليشتبك مع استراحة المنزليات في الركن المنحرف عن قنطرة الباب، وكن غالبا ما يزجرن إلحاحه فلا يسمحن له بالتحليق البيتي خوفا على المعلقات،ومنها صورة كالحة احتملتها المسامير لتذكر (الخطار) بمحاسن رجل، مؤنث المظهر، عاش يخلط الماء بالماء، الى أن امتلأ بياضا فضاع))،  تمارس الخالات شيئا من الصعلكة النفسية، وهن يدخلن عالم السجائر بلا دخان، ويهيض أجنحتهن دخان بلا سجائر، لاتجتمع الخالات بلا لف السجائر من دون فرص تدخين شيء منها،الناقة التي تحمل الطعام ولا تذوقه أو تأكل منه القليل، ليس همُّ الخالات الدنيا بأسرها {فهن خارج الدنيا}، ولكن تجمعهن السجائر، وتفرقهن الأفكار التي توحشت من كثرة التكرار، يصطلح الرائي نزار مع وعيه العالي لترسيم ملامح فجوة درامية، يقترح علينا ذكاؤه أن نردمها بالأسئلة، وتمثل الأنا الساردةـ ـــ بوصفها فاعلا حكائيا نائبا عن القاص في ميدان العملية السردية ـــ المركز البؤري الأساس والجوهري، الذي يجب فحصه ومعاينته وتأويله حين يتعلق الأمر بأي اجراء قرائي يغامر باقتحام (بيت الخالات)، انها الأسئلة، شعرية الأسئلة:
** خالة منهن، كانت تشاغل الولد بيوميات ليلية غير بعيدة.
**  الخالة التي شاهدته يرفع الأثقال في المرآة لم تتعرف على البطولة التي كان (ينتر) ويخطف بلا هوادة من دون أن يخلع ملابسه الحربية.
**  الخالة الأخيرة عثرت عليه في المرآة بين عصرين أكثر قربا، يخرج من معركة ليدخل في أخرى بسيفه الأحدب اللامع.
الخالات اللواتي أعلنّ في متاهة السدى، الطاعة والولاء لتجمع الهباء اليومي في منتجع السجائر، تلك التي سيدخنها مجهولون، بعد أن أكلت جزءا من أصابعهن المصفرات بفعل نسيان الزمن لهن، لابفعل لف السجائر، هؤلاء لابيت لهن الا الذكرى، ولاعزاء لوحدتهن الا التوحد مع الأسى الشفيف الذي يضرب الايام من أولها الى ما وراء آخرها، وهن منشغلات بندب حظهن على هذه المعيشة الضنكة، وليس في الافاق ثمة أمل، سوى الانحناء ساعات وساعات تحت سلطة السجائر التي لاتنتهي إلا لتبدأ من جديد، لف السيجائر جعل قلوبهن صفراء وأحلامهن صفراء، ولا شيء سوى الترديد اليومي في العقل الباطن ولاوعيه الأثيم (الولاء للسجائر)و(الأمر والطاعة للملل والهباء)، والخالات اللواتي انشغلن بفراغهن، أنعم الله عليهن بالجهل،فساد الروتين في قلوبهن واستأسد الإحباط.
وللفهم بشكل أفضل لا بد من فك شفرات مرتكزات تناص (الخالات)، ثلاث خالات يظهرن من إسقاط لغوي طارئ، تنضغط تحت لزوجته حكاية تتكاثف تحت ذهنية سرد مصيري مجهول، لوحة بشرية لا لون ولارائحة لها، سوى ما هاج منها في الخياشيم من رائحة شواء الأسى والسدى والذكريات، ومع اضطراد الحركة، يدلي السارد بمعلومات متوائمة، يقربنا من الصورة، ثم يعالجها بشعرية عالية تموه من خلالها الصورة مرة ثانية، أليس للخالات من عمل يزاولنه ــخارج لعنة لف السجائروالثرثرة والتشكي والنسيان؟.
إن لغة السرد تحمل في طياتها دلالات عديدة تتضافر وتتعالق فيما بينها،مما يساعد في تتبع أسلوب النّاص من خلال تحليل رمزية التركيب الجمالية والدلالية في بنية الخطاب القصصي، فلم تعد الكلمات دوالا ومدلولات بل اتحدت مع الوجود، غير مكتفية بترجمة المشاعر ونقل المعاناة الذاتية بالتجسيد، واصبحت تحلق في الوجود وفق رؤى مختلفة، وهذه نقلة وانعطاف مهم في رؤية الكاتب للغة السرد الحديث، وتبرزهذه التركيبات من خلال العلائق بين مكونات اللغة السردية، كونها مادة قابلة للتشكيل من خلال بناء علاقة بين الالفاظ لتشكيل الجمل،كما تتوسع تلك العلاقات بين الجمل او العبارات في متتالية نصية مرتكزة على الدلالات،وهي العلاقة الداخلية، أو الروابط بين العناصر المشار إليها أو المدلول عليها في الخارج، وهي علاقة الامتداد الخارجية لا الداخلية.
إن الكلام عن نزار عبد الستار هو كلام عن المحترفين الرائين، الذين بإمكانهم أن يحققوا لنا دائما في كتاباتهم أعلى شعرية قراءة كما يقول أدونيس.