نكهات القراءة

ثقافة 2021/06/02
...

  رعـد فاضل
 
(1)
حياتي في القراءة بثلاث مراحل: في الأولى كنت منبهراً وأنا أرى إلى الكلمات كيف تصطف جنبَ بعضها البعض الآخر بتناسق وأريحيّة على الصفحات، بخاصة تلك الضارب لونُ ورقها إلى السُّمرة بنكهته الساحرة. 
ودائماً ما كنت أتساءل في نفسي وأنا لما أتعلم بعد القراءة والكتابة؛ هل سيمكن يوماً ما أن أقرأ وأكتب أنا أيضاً؟ أما المرحلة الثانية فكانت تتمثل في عوالم سوبرمان، علي بابا، السندباد البحريّ، طرزان وباتمان...، وغالباً ما كان يتملكني الحزن عند الصفحة الأخيرة من كل عدد بين يديّ، كنت ميّالا إلى أن أقرأ قصصاً بلا نهايات لكل منها حكاية مستقلة، أي غير متسلسلة إذ كان يمضني كثيراً أن أنتظر أسبوعاً كاملا في كل مرة لأواصل تلقي سرد تلك القصص، وكم حاولت وقتها أن أعيد صياغة بعض منها كما أرى وأشتهي وأطمح أن تكون 
عليه. 
كنت ميّالا في هذه المرحلة كثيراً إلى شخصيتين، الأولى سوبرمان التي كانت ولا تزال محبّبة إليّ حتى الآن، يبدو ذلك بسبب من رغبة دفينةٍ هناك في الأعماق، رغبة لا بالخارق وإنما بالفكرة التي وراء صانع المعجزات والأعاجيب، الحارسِ الحامي جلاب الطمأنينة. 
والثانية: أخيليس، مع أني كلما أعدت قراءة الإلياذة كنت أعرف أنّ نهايته لن تتغيّر إلا في ذهني، وأنّ شخصية مهزوزة غادرةً ستجهز في النهاية بسهم عليه، إلى جانب رغبة أخرى تتمثل في أمنيةِ أن لا يجهز أخيليس على هكتور، إذ ليس من بسالة فوق البشريينَ ونبلهم منازلة من هو دونهم مهما كان باسلا، مع أني إذا ما منِحت فرصةَ التلاعب بنتيجة النزال ما كنت سأختار غير النهاية المعروفة على يد أخيليس!، ولا أعرف مرد ذلك حتى اليوم، إذ سبق وأن توفرت لي مثل هذه الفرصة وقتَ كتبت مسرحيتي الشعريّة (لا غبار... لا أحد) إبّانَ ثمانينيات القرن الماضي، إذ تعمدت أن تكون مونودراما بأخيليس وحده مع ثماني مرايا تمثل العالم الذي واجهه، ذلك أنه لا غرماء بشريينَ له، موفراً له البسالة في ذروات كمالها وليس كما في الملحمة. 
أما المرحلة الثالثة فكانت واسعة متشعبة ومعقدة، كانت مرحلة التلمس والتعرّف بوضوح على الأشياء، مرحلة التثقف والخطوات الأوَل للدخول إلى عالم الكتابة، مرحلة أن أكون شاعراً وكاتباً ظل يتواصل في محاولات متنوّعة مختلفة على مدى أربعة عقود ليكون الشاعر والكاتبَ الذي يصبو أن يكون 
عليه. 
في وقت متقدم من هذه المرحلة فهمت أنّ الكتابة ليست كما الكِتاب ذلك أنها بلا نهايات، أنها منظومة بداياتٍ لكل بداية فيها خاتمة (لا نهاية)، وهذا يعني اِجمالاً أنها بلا نهاية مما يجعلها قابلة دائماً للإضافات لأنها فكرة ((الكتاب اللانهائيّ)) تلك التي شغلت العديد من الكتاب ومفكري الكتابة طوال حياتهم الأدبيّة. 
إنها ريبة متواصلة من البدايات؛ وهل أدل على ذلك من ألف ليلة وليلة؟ الكتابة هي ((أنا لا أحد، هذا هو اسمي)) كما أجاب هوميروس بذكاء عالٍ بلسان أوديسيوس على سؤال العملاق بوليفيموس (السيكلوب) وقتَ سأله: مَن أنت؟             
 
(2)
سربروس وفقاً للأسطورة هو كلب الجحيم، ولا أدل على أن يكون سرد هذه الأسطورة متينَ الحبْك إلا إذا كان هنالك مكان (الجحيم) ولا بد أن يحيل هذا المكان إلى كونه مأوىً أو بيتاً. 
وعلى ذلك لا بد أن يكون لهذا المكان المأوى البيتِ ساكنٌ أو سيّد، فأسند مُنشئ الأسطورة السكنى والسيادة لـهاديس. 
وبما أنّ هذا المنشئ قديمٌ فإنّ بيتاً هائلا مثل هذا يتطلب منطقيّاً حارساً في قمة الضّراوة، كي يظل بيت الجحيم هذا منغلقاً على أسراره، ولتظل هذه الأسرار قابلة للقراءة والعيادة والفحص والدهشة والقبول، إلى جانب ما يضفي عليها ذلك من هيب وغموض، فكان سربروس هو ذاك الحارس 
الضاري. 
في كتابه التيوغونيا (أنساب الآلهة) منح الشاعر الإغريقيّ هزيودوس كلب الجحيم الحارسَ هذا ((خمسين رأساً))، لكنّ بورخيس رأى فيما بعد أنّ هذا العدد لم يخفض إلى ثلاثة رؤوس إلا ((لدواعٍ تشكيليّة بحتة))، غير أنّي أرى أنّ ما هذه الدواعي إلا لتقريب الصورة كثيراً إلى المنطق لتكون الحكاية أكثر مقبوليّةً من قبل متلقيها كلما تقدم الوقت، لأنّ العقل المستقبليّ دائماً ما يكون أق خرافيّة من سابقيه، وهذا في أغلب الظنّ ما دفع مؤلفاً من القرن الثامن عشر(زكريا كراي) إلى أن يفسر 
هذا التخفيض على نحو أنّ ((الرؤوس الثلاثة ترمز إلى الماضي والحاضر والمستقبل))، هذا التفسير يأتي تدعيماً للحكاية من جهة تواصلها زمنيّاً مع كل قراءة قادمة على الدوام، على الرغم من أنّ هنالك هامشاً للحكاية يشير إلى أنّ ((هرقل أخرج الكلب السربروس إلى وضح النهار))، ويبدو مرد هذا الاخراج لإضفاء نوع من الواقعيّة على الحكاية، أيّ أنّ السربروس موجود فعلا بدليل خروجه هذا، ذلك أنّ لكل علة علة تلحق بها، إذ إنّ المنطق حتى عندما يكون الكلام على الأدب والخرافات والأساطير يوجب أن يكون هنالك دائماً أساس أو بداية لشيء ما، كما لابد أن تكون له نهاية لكي ((لا يتواصل سرد العلل إلى ما 
لا نهاية)). 
حقاً تتطلب الأسطورة الكثير من الطفالة في أثناء قراءتها، وما الضير في ذلك مادام الزمن نفسه ((طفل)) كما يقول هيراقليطس.                                                  
هذه إفاضة لقارئ أساطير من القرن العشرين والحادي والعشرين، ترى ماذا سيفيض قارئ قابل ما في قرن مقبل مادام الزمن طفلا؟.