التنومة.. بستان الطفولة

ثقافة 2021/06/02
...

  حبيب السامر
في المدن الصغيرة الموشومة بالحياة، على حافات وضفاف شواطئها، تداعب الموجات المنحسرة على صخور متكدسة بعشوائية، لتشكل بذلك لوحة عجائبية، يتناوب الناس الجلوس على أرصفة تحاذي الضفاف.. هناك تنمو بعض أحراش ونباتات واطئة، وبالمقابل نلمح بعض شجيرات تمازح أغصانها المنحنية مويجات متلاحقة تتلاشى كلما اقتربت منا.
هذه الصور ظلّت راسخة في ذهني، يوم كنا نمضي جّل وقتنا قرب شط العرب، صحبة أصدقاء أنقياء، نتبادل الأحاديث وأقدامنا تلامس النهر، يأخذنا المزاح كثيرا، حتى وصل بأحد أصدقائنا أن دفع صديقا كان منسجما مع كتابه يراجع دروسه، انتبهنا فجأة وجدنا كتاب صديقنا يطفو على سطح النهر، والصديق الغاطس يخرج من الماء مبلولا وهو يبتسم.. هذه الصورة لا تزال شاخصة أمامي أتذكرها دائما وأبتسم!
أتذكر جيدا، كيف كنا نمضي الوقت بين بيوتنا و(كردلان) قاصدين الثانوية بين دروب طينية متعرجة، بساتين النخل و(الشاخات) التي نقفز أحيانا لنعبرها أو نعبر قناطرها من جذوع النخل، هكذا كانت التنومة بستان نخل ممتد من الجامعة الى (الطبگة) والشوارع المعقوفة والمستقيمة تأخذ أبناء المدينة الى محال عملهم ببساطة متناهية، وقت استراحتهم تأخذهم مقاعد مقهى (مكي) وسط أصوات الدومينو و(الطاولي).. الكرويتات المرصوفة بعناية جميلة والمغطاة بالحصران المعمولة باليد من (الجولان).. كثيرا ما كنا نشرب الشاي أو الحامض والمشروبات الغازية بعد أن يدفع أحد الخاسرين حساب المقهى، وياما تكررت وسط قهقهات الحاضرين وتوعد الخاسر بالفوز في اليوم التالي..
في هذه المدينة المغروسة بفسائل النخل المتنوعة، والأنهر الفرعية العديدة، كان نهر (الحوامد) هو الأقرب منا، كلما اشتد الحر قفزنا بأجسادنا لنطفئ لظى تموز وآب، ونعود الى بيوتنا بعيون حمراء وأجساد 
مملوحة.
(ليل التنومة/ محزوز قَمرها بنافورات النخل/ عشبة (كردلان) نفترشها/ واليمامات بين السعفات/ أنّاتها تفر من بين السعفات.. رائحة قرى للبيوت الطينية في قَاع الجمر/ النهر المتعرج/ إلى مساحات الماء يفضي/ بواخر راسية قرب الضفاف/ كنا نقترب من (بيت زعير) / أبِمقدورك أن تتذكر أبعد من تلك الليلة/ قَارب الصفيح المتكئ على كتف (الحوامد)/ يا صديقي (شاكر)/ وأنت تكسر صفاء الريف بقهقهاتك/ هادئ جداً/ ينقش القمر/ بصماته على حصران باحة 
البيت).
كان عدد الذين بزغ نجمهم من هذه المدينة، من الذين يكتبون الشعر والقصة والمسرحية والمسلسلات، ومن الفنانين الذي اشتهروا بأصواتهم المتفردة، وبريشاتهم الملونة، نعرفهم جميعا، وهم لا يتعدون أصابع اليدين، نعرفهم تماما، حين نمضي في الشارع ندرك انتباه الناس من حولنا.. اشتهرت المدينة أيضا برياضيين أكدوا حضورهم في المحافل المحلية والعراقية، كنا نعرفهم بالأسماء ونحضر للمباريات التي تقام في الساحة المقابلة لجامعة البصرة، وهي تقع في نهاية المدينة الغافية على كتف الشط، كانت دلالة المدينة (الجامعة) حين يعبر الطلبة والأساتيذ المعبر بنوعيه الأهلي ومعبر الجامعة، مدينة نقوشها الزي الموحد، والوجوه الطافحة بالمعرفة والألفة الجميلة.
حين نمر في شوارعنا الآن، نتذكروقع خطواتنا، وقفاتنا، جمرة التذكر التي ترجعنا الى أكثر من ربع قرن بمرموزات الحياة الشاخصة، ورائحة الأيام المشبعة بالحكايات،وهي تتسلل إلينا بعفوية تعيدنا الى بساتين 
الطفولة.