كولاج تأويلي لكتاب «تأجيل الألم»

ثقافة 2021/06/02
...

 علي شبيب ورد  
 
يمثل أمامنا الكتاب السردي (تأجيل الألم) وهو يشهر عنوانا مواربا يرغم المتلقي على استدعاء خزينه المعرفي، لايجاد دلالة مناسبة لما يرمي اليه القاص (حجي خلات المرشاوي) بكلمة (تأجيل). ومن المؤكد أن المتلقين سيتنوعون في تأويلاتهم لهذا التأجيل، محاولة منهم للوصول الى ما ينطوي عليه فعل التأجيل، من أسباب واحالات دلالية محتملة. ومن جانبنا نرى أننا امام نصوص توحي الى - طرد أو مواجهة أو الصبر على تواصل الألم ومقاومة جبروته- لما تضمره تلك النصوص من أحداث تتنافس مواقدها، لتفعيل تداعياتها المتناسلة في التشكّل.     
ولعل نص (تأجيل الألم) يوضح لنا ذلك، فالأمُّ على الرغم من معرفتها بعودة ابنها جثة هامدة، فإنها (توصد الباب بأعصاب باردة ولا تسمح لمارد الألم الخرافي بالدخول الى عالمها الشفاف. لطالما آمنتْ أن الأبناء يجب أن يأتوا الى امهاتهم بطريقة أقلُّ ألما).
 العنوان المركزي للكتاب، يخفي وراءه، عناوين أخرى ثانوية، لقصص قصيرة، تتبعها قصص قصيرة جدا. وما يلفت النظر في الكتاب الماثل، هو أننا نواجه ورشة سردية، لنصوص تتنوع في أحجامها وآليات كتابتها، وطبيعة العلاقات الداخلية والخارجية بين عناصر أبنيتها السردية (أيقونيا ودلاليا). فالاحداث والشخوص والأزمنة والأمكنة والموضوعات المتناولة، لا تخرج عن الراهن العراقي المحتدم بالصراعات والحروب المتواصلة. وآثار تداعياتها على الانسان المبتلى، والمكبل بالتسلط والعنف والفاقة، وغياب الأمل بحياة أرحب وعيش كريم.
وعلى ما تقدّم، نجد أنفسنا نقف عند كتاب تتعدد آليات مثول مكونات السرد في نصوصه، على الرغم من تشابه ظروف انتاج النصوص فيه. كما أننا نود الإشارة والإشادة معا، الى توفر نصوص وكأنها (اعادة كتابة) لنصوص سبقتها، وهذا ما يحسب لحسن أداء منتج النصوص. حيث تكرار شخصية الاب والام والمرأة وسواها من الشخصيات، ولكن تحت ظروف سردية متنوعة بتنوع النصوص. والمتمعن في قراءة الكتاب، يلحظ هذا بسهولة، وينم هذا عن قصدية القاص، في عمل (تمرين كتابي) في نصوص عدة، تتباين فيها ردود أفعال الشخصيات تجاه الاحداث وتداعياتها المحتملة. ويمكن لنا الاشارة الى عناوين النصوص: سامحني يا بابا/ الآباء/ أب/ نية الأب/ قبلة أبي.
كما أن إعادة الكتابة هذه، لا تعني افتراض تعدد الشخصيات فقط، بل تعدد أحداث وأزمنة وأمكنة وحكايات وأفكار وحركات سرد، وتنويع مواقف وتباين بدايات ونهايات قصص. كما نلمس في الكتاب أيضا، هيمنة حضور لشخصية المرأة ومواجهتها لضراوة ظروفها - في الواقع والسرد- وتحولاتها الكارثية، وقسوة الفكر والمناخ والنسق الذكوري القارّي الطارد والمهمِّش والمغيّب للحلم الأنثوي. وما يحسب للقاص كذلك، قدرته على التقاط اللحظات المتوهجة من مجريات الاحداث، ومن ثم صياغتها ضمن نسق سردي منتج اتصاليا. كما أنه قدم لنا نصوصا غير مكتملة النهايات، أملا منه في اشراك المتلقي، عبر افتراض حلول ممكنة لحركة السرد.
ولنا أن نشير هنا الى اشتغال القاص (حجي خلات المرشاوي) على القصة القصيرة جدا، هذا النمط السردي الذي يتطلب براعة التقاط اللحظة المتوهجة من مجريات الاحداث، وتحويلها الى بنية سردية ذات خصوبة اتصالية قادرة على تحريض المتلقي، لافتراض تأويلات ممكنة. وتكمن صعوبة الكتابة في هكذا نمط قصصي، في ايجازه وتكثيفه اللغوي، فالاقتصاد اللغوي يتطلب اعتماد البناء السردي، على جملة واحدة وقصيرة جدا. وهذا يستدعي صياغتها بعناية فائقة، كي تكتنز على شحنات بث، تمنح القصة كفاءة عالية في اقناع المتلقي، بأن الجملة التي أمامه، هي قصة على الرغم من قصرها الملحوظ. 
في النصوص التالية، نجد سندا بيّنا لما ذهبنا اليه اعلاه:                                                                                                          (تيه) تبكي. ليس في الغرفةِ سوى يد الهواء. (علامة) لم تستقبله تلك الأم. كان يحمل جثة ابنها في عينيه. (غزو) ضحكتْ. نسفتْ كلَّ أبجديتي. (سعادة) قالتْ أحبكَ. أنا إلهٌ سعيدٌ.                                                           
وتكمن أهمية الكتاب في تناوله لأحداث وتداعيات الراهن العراقي، قبل وبعد جرائم داعش، تلك الجرائم التي أثرت على نفسية الانسان جراء غدر أخيه الانسان به. وبالأخص بعد ما تعرضت له الطائفة الأيزيدية من إبادة جماعية ادهشت الضمير الانساني، وعمقت جراح العراقيين، وزادت من مآسيهم، وتسببت في إطالة أمد أوجاعهم. ومع أن القاص من الطائفة الأيزيدية، غير أنه تناول المجريات بروح وطنية خالصة، وبحس انساني مترفع عن متاريس الهويات المنتجة للتفرقة. 
وهذا ما يؤكد أهمية الثقافة في لعب دور مهم من اجل انعاش الحس الوطني من جديد، كونها جامعة للهويات صوب ما هو وطني وانساني. وأغلب النصوص المدونة في الكتاب، فيها من العلامات والدلالات ما يفصح عن رأينا في (المرشاوي) مؤلف الكتاب. والنص أدناه يكشف فطنة القاص في قراءته للكارثة: (ثروة) بعد أن دفنتْ الأمُ وحيدها، قالت لمن حولها: يتبقى لي 30 مليون عراقي يستحقون الخوف عليهم. 
شكرا للقاص (حجي خلات المرشاوي) على هذا الكتاب السردي الحامل لاسرار تواصله مع المتلقي. كونه يعرض له باقة من النصوص المنفتحة على بعضها، لتشكل بانوراما مشهدية مأخوذة من احداث عاشها القاص بكل أهوالها. وعشناها معه، بما مر بنا من ويلات هددت وجودنا وأربكت حياتنا بتداعياتها الموجعة. غير أنها ذات نكهة خاصة بالبيئة التي عاشها القاص واكتوى بلهيب احداثها مع أسرته وابناء جلدته. الذين تعرضوا لأبشع ابادة جماعية، وارتكبت بحقهم جرائم لا انسانية يندى لها جبين العالم، ويخجل منها كل البشر، حاضرا ومستقبلا. والتي مارسها ضدهم وضد الشعب العراقي عامة، الفكر المنحرف والمتطرف لعصابات داعش التي لا ضمير ولا دين لها، ولا تنتمي لجنس البشر. وهذا ما يتبين جليا في نص (داعشي مرتبك) حيث التحليل النفسي لشخصية زميله في الدراسة، الذي تحول الى داعشي مجرم.  
نحن نحتفي بهذا الكتاب، لأنه ينطوي على ما يؤهله لجذب اهتمام المتلقي، للوقوف عنده ومواصلة قراءته، والمساهمة في تشكيل نصوص التأويل الممكنة والمحتملة. وكذلك لما يحمله كاتبه من حسن قراءة للراهن والمقبل، كونه لم يتعامل مع المجريات الكارثية، بانفعال عاطفي يفسد حركة السرد، على الرغم من معايشته لأهوال تلك الاحداث وتحولاتها. بل وقف عندها وتمعن في تفاصيلها، وفق رؤية بصيرة عابرة للحواجز والحدود، والحقول المانعة للألفة والمحبة بين أبناء الشعب الواحد. 
 وانطلاقا مما تقدم أعلاه، نؤكد أن كتاب (تأجيل الألم) جدير بالاهتمام والاشادة، بوصفه يبرهن على أن الأديب والكاتب العراقي عموما، كان ومازال يحمل شعلة التنوير، ولم تبعده عن تطلعاته الانسانية، أفانين السياسة وضراوة الضغائن وويلات الحروب. ونحن في رأينا هذا حول الكتاب، لا ندعو الآخرين الى تبنيه، بل ندعوهم الى قراءة الكتاب، وفحص أبنيته العلامية والدلالية، للوصول الى تأويلات أخرى ربما تكون مكملة أو مصوّبة لما رأيناه. 
وذلك لأن تعدد الآراء واختلافها، طبيعة انسانية تغني ولا تفقر المنجز الابداعي. لذا نعبر عن امتناننا سلفا، لكل قارئ ومؤوّل لنصوص الكتاب، لأن اختلاف الرأي ظاهرة حسنة تمنح المنجز فرصا شتى لبلوغ خصوبته الاتصالية. 
إنّ النصوص الماثلة، توفرت على مزايا أسهمت في عرض مفاتنها الجمالية امام تلقينا، ومنحتنا فرصة متابعة قراءتها. وهي لم تكن نصوصا سردية دونتها مخيلة سارد جاد وحسب، بل لمسنا فيها معاناتنا واحزاننا وآهاتنا، جراء الفاقة والعوز والقهر والرعب والارهاب والتسلط. 
من ثم، نحن ننوه، الى أننا قرأنا كتابا أقل ما فيه، انه كشف عن سفرٍ مضى، وعالمٍ معاش، وأضاءَ لآتٍ أرحب. وبيّنت النصوص الماثلة، الى أن الكاتب كان ينفعل ويتفاعل مع كل أنةٍ أو صرخةٍ لانسان موجوع، ويتقمص دور كل شخصية في همومها وردود أفعالها، فحمل تطلعات الجميع للتحرر من المحنة، ودوّن لنا نصوصَ رثاءٍ، عن الوجع العراقي المتواصل.