خصوصية الكتابة الذاتية في «ذاكرة الطباشير» لكامل الدلفي

ثقافة 2021/06/03
...

  رنا صباح خليل 
بدءاً عندما يريد القارئ مقاربة عوالم القصص القصيرة والقصيرة جدا تواجهه عادة صعوبات جمة منها اختيار المنهج الذي يلائم هذه المجموعة ويميزها عن تلك؛ ذلك ان المجاميع القصصية يندر لها ان تجتمع تحت وحدة موضوع او يندر لنا نحن القراء استكشاف ذلك الخيط الرابط في سلسلة القص وهي تخترق مبناها الحكائي، لكننا حين قرأنا (ذاكرة الطباشير) لكامل الدلفي في مجموعته الصادرة عن دار المحجة البيضاء عام 2021 وجدنا أنه يسلمنا مفاتيحها ودوالها على طبق القراءة بطريقة تجعلنا نهتدي الى الأدوات النقدية لفك ألغاز وخفايا النصوص القصصية. 
إذ انه قسم مجموعته القصصية إلى أربعة فصول وقد افتتح كل فصل منها بأقوالٍ دالة كانت بمثابة عتبات لطرق أبواب القصص وفتح مغاليقها والولوج الى دهاليزها.
إن خصوصية الذات الكاتبة في هذا المنجز تجترح علينا سبلا للكتابة الذكية من دون تكلف ومن ضمنها أسلوب التداعي الحر الذي يفتتح به الكاتب مجموعته تحت عنوان (مدخل) وكأنه يعرفنا بهويته ككاتب فيقول: «حلمت بأني عاشر المبشرين بالحب» وفي مقطع آخر يقول: «أنا حطاب في غابة أشواق لا تنكري ما تحطبه فأسي»، وفي نهاية المقطع يقول: «فالنار تشهد لي بأني أنا الحطب»، فقد استخدم القاص احدى تقنياته في الكتابة عن محتويات الوعي من دون رقابة اشتراطات القص متخذا من ذلك أداة لمعرفة العمليات اللاواعية كما الواعية في مخيلته. 
بعد المقدمة التي كتبها الدلفي بدأ بافتراش قصه والحق أننا يجب أن نلفت العناية في القصص القصيرة جدا التي كانت في بداية المجموعة القصصية الى القفلة التي كان يفاجئنا بها بطريقة مشوقة مغلفة بالسخرية السوداء التي حرص على انتاجها داخل القص باهتمام شديد، ذلك أن هذه القصص كانت تحاكي إظهار سوداوية مخلفات الارهاب وما اعتمله في نفوس شخصيات القصص، وما افرزته سياسات الدول المنتهكة لآمال الناس وحقوقهم، ومن ذلك ما جاء في قصة عازف الكمان لذلك الصياد الذي كان يرمي بصيده في النهر كلما اصطاد سمكة، الى ان اصطاد رأسه ومن ثم غرق معه مجددا كناية عما يكابده ذلك العازف من ضياع وفقد ضمن صورة سوريالية المشهد، وغير ذلك ما نراه في الحلم الذي قصه الطالب لأمه صباح يوم امتحانه ليفسره الانفجار في (سوق عريبة)، ومن ذلك ايضا الفتاة التي انتهكت انوثتها بسبب نزوح الأسر بعد الاحتلال وموقفها القاسي باتخاذها قرارا بكي عضوها بجمرة سيكارة، فالقصص عالجت الكثير من القضايا السايكولوجية للفرد وكان للمرأة نصيب كبير منها، فتلك زوجة تحن لزوجها الذي فقدته بسبب الحرب فتستذكره من خلال لعبة شطرنج، واخرى تتخذ الطين تشكيلا عن آدم مغرقا في صمته لتبوح وتوغل في البوح عن طريق سلاية قصب، بينما كانت زوجة اخرى في قصة (الهدوء اللذيذ) تهدي لذة نومها مع زوجها لحبيبها في قصة استثمر فيها القاص موضوع عقدة اليمين الأوروبي إزاء المهاجرين ليأخذ القص منحى سياسيا تقحمنا قفلته في لجة حبٍ ضائع.
جاءت موضوعات القص متنوعة اتخذ القاص فيها فنون التجريب فكان للتناص نصيب منها، ومن ذلك ما جاء في قصة (ساحة الحلاج) التي تناول فيها القاص حكاية الخليفة المقتدر بالله مع المريدين بعد أن أمر بأن تقطع أيدي «أبو المغيث» ورجليه ويضرب عنقه ويحرق جثمانه ويذر رماده في دجلة لتتناص تلك القصة مع قصة جدارية جسر الجمهورية، وبذلك ترسم لنا صورة لضياع الحقوق عبر مراحل التاريخ المختلفة، لقد استخدم الدلفي فن التناص في أكثر من قصة في المجموعة، ففي الفصل الثاني كان التناص في قصة (الامتاع والمؤانسة) عن طريق مخطوطة يقدمها استاذ في جامعة بغداد ومن ثم يذهب لمكانها في المكتبة العباسية، إذ كان حبيب ينتظر حبيبته منذ أمدٍ بعيد ليذهب الأستاذ فيأتيه اتصال منها عبر الموبايل في المكان نفسه فكان التناص يشتغل على الفكرة اي فكرة انتظار الحبيبة باختلاف مراحل زمنية أطرت القص. 
شُغل الدلفي بهموم الوطن فعرض لنا مشاهد وصورا للوطنيين الشرفاء من شعراء وقادة ومخمورين يئنون على أوطانهم وجنود يحرمون من لذة العيش في سبيل الوطن ومناضل حقيقي يحضر من خارج البلد بعد أن يكابد الغربة في سبيل الخلاص وفي سبيل مبادئه التي يؤمن بها ليعود بعد نهاية الزمن الصدامي متفردا بفكره الذي لم يتلق إزاءه اي امتياز، أو زوج مثقف مات بعد ان اعتقلت زوجته، وشاب يكون له شأن في الانتفاضة ضد الظلم التي لم يذكر القاص اسمها ولكنه يقدم ما يدلي بأنها الانتفاضة التشرينية التي تبناها الشباب الواعي لحقوقه فتعتقل والدته التي ربته بعد ان فقدت والده إبان الحكم الصدامي، ويبقى هو بأثره الذي توارثه من أسرته التي يشهد لها التاريخ بالوطنية، ولم يتوقف قص الدلفي عند حدود العهد الصدامي وما بعده بقليل بل استمر ليدين قوات المارينز والقاعدة العسكرية الاميركية في قصة بعد ان انهى قصه عن الخوف من سيارة اللاندكروز أيام القائد الضرورة، وقصة عن دائرة التوجيه السياسي وملفاتها وتقاريرها المفتعلة، وقد كلل قصه وختمه بقصة هي من أطول قصص المجموعة لتكون مخصوصة بوصف فوضى سقوط النظام الصدامي ضمن لوحة بانورامية كبيرة اتخذ فيها طائر الرخ رمزا ودالة واداة لتعرية وإدانة مرحلة قاسية بإفرازاتها على الشعب العراقي. المكان في مجموعة الدلفي يبدو في بعض قصه ضبابي الملامح، فالأمكنة مثلها مثل شخصيات المجموعة بلا أسماء، وكل ما ندركه أن الوطن هو الوعاء الذي يحتوي هذه الأماكن التي يتناولها القص، وبما أن الأحداث لا يمكن لها أن تقع خارج إطار الزمان والمكان اللذين لا يتواجدان خارج وعي الإنسان، فالقصص تكشف لنا ماهية فضائها حتى وان اختلطت فيها المراحل والفترات الفاصلة، ومن ذلك وصول الرسول من قبل النعمان بن المنذر الى الجدة في قصة (فصول أخرى) ولعل الأحداث تتنوع حسب تنوع الزمان والمكان، فالموجود خارج الوطن يطمح في العودة إليه، ولكنه يصطدم بالواقع بعد العودة فيكتشف أن العود لم يكن أحمداً كما في قصة (العلق). 
هناك قصص عكست معاني إنسانية جمة، تناولها القاص بمدى تصميمه وحرصه في جعلها أكثر تأثيراً في نفوس متلقي نصوصه الإبداعية؛ أي أن يجعلهم يتفاعلون مع ما يكتبه من قصص نجد نحن القراء بعد بقراءتها إنه كان قريباً جداً من مجتمعه بكتابتها، ومن ذلك قصة (هذيان) و (الاخدود الحار) و (العريف) و (المحطة) و (ارق لا ينتهي) و(ام الحصو) و (قلم حمرة) و (تراتيل عباد الشمس)، وغير ذلك فالقصص حافلة بكل ما له صلة بمضامين الهم الوطني والاجتماعي والسايكولوجي والتاريخي وهي بمجملها اتخذ فيها القاص إضفاء طابع الجدة الممزوج بالسخرية والاستهجان غير المعلن من غير أن ينزلق في متاهات الغموض، متسلحا بكثير من تقنيات الكتابة القصصية إذ نجده يصر على إمتاع القارئ وإهدائه لذة القراءة من خلال حكاية مشوقة يمتزج فيها الواقعي بالمتخيل ويأخذ فيها العجائبي بعدا رمزيا.