اللغة الفقهيَّة واللغة الصوفيَّة

ثقافة 2021/06/03
...

طالب عبد العزيز 
 
لم تنتفع الثقافةُ العربيةُ بما خلّفه لنا المتصوفةُ الاسلاميون من نفائسَ لغوية إلا متأخرةً، فقد ظلت ثقافتنا قرونا طويلةً أسيرة اللغة والفهم العقليين في تطورها، وما كانت لتبلغ جمالها وأناقتها لولا اكتشافات المستشرق لويس ما سينيون (1883  - 1962) للأثر الثر والغني في حياة وشعر الحسين بن منصور الحلاج (244 هـ 309 هـ). 
ولولا انتابهة ماسينيون الرائدة الى أشعار فريد الدين العطار (618 - 540 هـ) التي أتي في بعضها على الحلاج متصوفاً وشاعراً وانساناً مختلفاً، فضلاً عن إشاراته أيضاً الى ابن سبعين، وابي الحسن الشيشتري وغيرهما. وإذا أردنا البحث في ما ذهبتْ اليه حركة اللغة العربية، في تطورها التاريخي، منذ نزول الوحي الى اليوم- هذه اللغة التي ارتبطت ارتباطاً بلاغياً بالقرآن والسنة - فيمكننا الحديث عن مذهبين أو توجهين(لغتين) هما (اللغة الفقهية واللغة الصوفية) وسيكون بإمكاننا التفريق وبيسر، بين لغة كلٍّ منهما بالاحتكام الى ما بين أيدينا من النصوص، شعراً ونثراً، وسيصحُّ القول هنا بأنَّ اللغة الفقهية كانت المتن الأعلى في التدوين قرونا طويلةً، محميةً من فقهاء الدولة، فيما ظلت لغة المتصوفة هامشاً، لم يتنبه اليه أحدٌ قبل إشارات المستشرقين، ذلك لأنَّ لغة المتصوفة كانت تُعاملُ بحكم المروق والخروج عن طوق المؤسسة الدينية- السياسية، فتعرضت الى التحجيم وحرمة التداول، وطورد أصحابُها ،ذلك لأنها ومن وجهة نظر فقهية ممارسةٌ في هدم الدين، وتقويض سلطة الخليفة. 
 وبالإشارة الى أهمية لغة المتصوفة نقول: لم يتمكن الشعراء والكتاب العرب - على أهميتهم من زحزحة اللغة كثيراً، وبلوغ غاياتها الكامنة واللامحدودة، مثلما فعل المتصوفة بها، ولم يقدّم الكبارُ منهم، ببلاغتهم وإعجازهم وأخيلتهم نصف ما قدّمه هؤلاء، الذين انصرفوا بقلوبهم وأجسادهم وكلياتهم الى ما وراء اللغة نفسها، الى ما لم يصل اليه أحدٌ من قبل، الى المديات الاستثنائية المخبوءة فيها. ويمكننا بوضوح تام أنْ نقول بأنَّ الزُّهاد والمتصوفة، الذين انصرفوا الى تكبيل أنفسهم بعقد جمالي، كليٍّ نتج عنه ذوبانهم حدَّ التماهي بالذات الالاهية، عبر ممارسات تبدو تقليدية في أفعالهم اليومية، لكنها لم تكن كذلك، هذه العلاقة التي لا تتم إلا عبر لغة عميقة خاصة، لغة تجمع بين الوضوح والايهام، بين التصريح والتلميح، بين ما يبقي على الحياة وما ينهدم منها، هؤلاء، الذين ما كانت لغتنا لتبلغ كمالها وجمالها لولاهم. كان المتصوفة قد خرجوا باللغة مما الفته الى مستوى جديد، مستوى ما زالت تدين في تطورها إليهم به. فقد كانت تتعطر بأقلامهم، ويضوع شذاها بأفواههم، وتجري مجرى الدم في عروقهم، ولا أبلغ من المستوى الرفيع الذي بلغته عندهم من قول معروف الكرخي (ت 200 هجرية): التصوف هو الاخذُ بالحقائق، واليأسُ مما بين أيدي الخلائق).