قصص قصيرة جداً

ثقافة 2021/06/05
...

 علي لفتة سعيد
 
نسيج 
تعود أن يشم البسطال.. كان الأرق يقتله.. لم ينفع معه شرب استكانات الشاي من القوري المحترق، ولا يهمه إن كانت النار كاشفة لموضعه وموضع سريته.. بل كان لشدة الأرق يتمنى لو نفذ هجوما ويخترق الساتر لعل التعب يهده وينام.. اقترح صديقه أن شم البسطال، ففيه رائحة تجعلك تدوخ.. وبدلا من النوم صار مدمنا. التقى صديقه بعد ثلاثين عاما على انتهاء الحرب.. كان مكتنز الصحة موفور العافية، يركب آخر موديل للسيارات، له لحية مشذبة، وثمة انفار حوله كادوا يبعدون الصديق عنه، لكن إشارة منه أوقفت الاذرع الستة التي امتدت.. سلم الصديق وقرب أنفه من رأسه ليقبل كتفه.. وبسرعة ابتعد مخافة ان يدوخ وينام في الشارع.
 
المطاف الأخير
لم تمضِ أيام حين توقفت الحياة، وانقلب عاليها سافلها.. لكن المفاجأة التي حدثت إن أجزاءً من الكرة الارضية تحوّلت الى ما يشبه الفقاعات، ثم انفجرت لتخرج منها أجساد مشوّهة.. انزرعت مثل أشجارٍ بلا أغصانٍ ثم استوت على الأرض، وراحت تنظر بعيونٍ مدماة ووجوهٍ لم يزل الدم يلوّن الجروح العديدة التي تملأ الأجساد.. لم تكن لهذه الأجساد قدرة على الحركة فالكثير من أعضائها بدت مقطوعةً وقامات شبه مشوّهة.. لكنها حافظت على ألسنها وتشير بأصبع مأكول الى من يقابلها وكأنها تشير باتهام القتل، فتخرج السيوف والنبال والخيول والبنادق والدبابات والرمانات والطائرات والمفخخات.. ثم يسمع الجميع صوت ضحكاتٍ مجلجلةٍ لا أحد يعرف من أين تأتي.. فتنتبه الأجساد الى حالها وتبدأ بإطلاق سؤالٍ في وقتٍ واحدٍ لتتّحد وتتحوّل الى ما يشبه العاصفة التي حركّت ذرّات التراب لتنطلق زوابع من نار.. بينما كان الصوت يصعد الى عنان السماء، حيث هناك من يراقب ويعيد السؤال على شكل برقٍ يضرب الأرض بغضبٍ كاسر.. فيعود الصدى براكين الى الأذان.. يدور في الداخل وينام هناك بلا مخرج ويتردد مثل صدى طبول.
 
كهف قديم
قال لي أريد أن أرى ما في داخل رأسك.. ثمة سؤالٌ يحيّرني ويجعلني أتيه في التفسيرات، وهو ما جعل من الآخرين يقولون ذات الكلام الذي أقوله، يحوّلونه من حالة تعجّبٍ الى حالة استفسارٍ وسؤال.. أطلقت ضحكةً كبيرة، ارتجّت لها جدران البيوت.. لم أجد الجواب ولا أعرف الإجابة ولا أريد البحث عنها.. أغمضت عينيّ وتركته يفعل ما يريد وهو يسحبني الى الجدار المتّكئ على رصيفٍ قديم، فيه أريكةٌ خشبيةٌ وكوز ماءٍ وسقيفةٌ من قصبٍ حاكته امرأةٌ من هور الجنوب، وصوتُ موجٍ لنهرٍ جارٍ، وثمة طير بطٍّ يطارد أنثاه، وعصافيرٌ ملوّنةٌ تلهو بين أغصان شجرةٍ وارفةٍ وفواخت عادت لتوّها من طيران نهارٍ جميل.. وهناك ثمة امرأةٌ ترنو بشجنٍ وهي تفرش حضنها، تطبطب على شيء لا يراه سواها وكأنها تناغي طفلًا تركته وحيدا مع حكايات 
الشتاء.
كنت مشدوها بمتابعة تفاصيل وجه المرأة التي لم تغادر منتصف عشرينياتها، وكان وجهها قدّ من طلع النخل، وشعرها من لمعات نجومٍ كوّنت درب التبانة، وكفّ تضرب بها ظهرًا احدودب قبل أوان اكتمال الحولين.. كنت ابتسم وهو يغوص بأصابعه يبحث عن عذرٍ مكتمل الحجج، وقد ترك المتسائلين خلفه ينتظرون صرخةً منه إنه لم يجد سوى الفراغ..  كان مشغولًا بالعمق وكنت فرح بالهدوء الذي تسبّبه حركة أصبعه في 
رأسي.
 سمعت تنهيدته وهو يوجه رأسه الى طريق آخر غير أذني.. أني لا أرى إلا رجلًا يجلس بهدوء مضيفٍ.. تخرج من فمه حكايات عجيبة.. يرصفها في عمق المخيلة وجدرانها.. ثم طفق يعيش 
بصمته.