ياسين النّصيّر.. شعرية الحداثة وحداثة النقد

ثقافة 2021/06/06
...

  سلام مكي 
 
في كتابه"شعرية الحداثة.. الحركة الثانية لقصيدة الحداثة" الصادر عن دار المدى عام 2018، يسعى الأستاذ ياسين النصيّر، إلى خلق نمط نقدي خاص به، من خلال ممارسة الكتابة النقدية، وليس مجرد نثر الجمل النقدية، فالكتابة النقدية، تأخذ من مفهوم الكتابة بمداها الواسع، وتأخذ من الأدب بمداه المحدود، إذ يسعى الناقد في الكتابة النقدية إلى إنتاج نص نقدي، قائم على المزج والمواءمة بين الواقع بوصفه المصدر الأساس للأدب، وبين ذات الناقد الذي يخلق الأفكار ويعيد صياغة السائد، بطريقة مبتكرة، ليوصل رسالة إلى مجموعة غير محددة من المتلقين. 
في حين أن من يكتب الجمل النقدية، قد يسمى ناقدا، لكنه لا يمارس النقد، بقدر ما يمارس نثر الآراء المسبقة، وإقحامها في ميدان كتابي، قد يبتعد عن الفكرة الأساس التي وجد من أجلها. 
في مقدمة الكتاب، نجد ملامح الكتابة النقدية التي تسعى لسلوك طريق خاص بها، عبر مجموعة من الأهداف التي أراد النصير من خلالها تأكيد هذا التمثّل:
- اللغة التي استخدمها النصيّر، لغة مختلفة، متأتية من مصدرين هما الواقع وتجلياته، والنص الأدبي. فالنصيّر، لم يكتب هذا الكتاب، إلا بعد أن اطلع على نتاجات العشراء المنتمين إلى ما يسميه الحركة الثانية لقصيدة الحداثة، فضلا عن النقود التي تناولت تلك القصيدة، وفضلا عن الواقع والمجتمع.. النصير المأخوذ بفكرة واقعية الأدب، وعلوية الشعر على الشاعر، والنص على ما يحيط به من إرهاصات وتناقضات، نجده قد انشغل بالشعر عن الشعراء، ففي الوقت الذي نجد أن حقبة الستينيات، وما خلفته من آثار كبيرة وكثيرة، مازالت مؤثرة وفاعلة في المشهد الشعري والثقافي بصورة عامة، تناولتها الكثير من الأقلام، من زاوية واحدة، هي زاوية الشعراء الستينيين، وتحديدا خلافاتهم وصراعاتهم فيما بينهم ودور الايديولوجيا في تكوين قناعاتهم، وتوجيهها نحو مسارات معينة. 
النصير، لم يكترث لأمور قد يراها مجرد هوامش لا تستحق كل تلك المساحة التي خصصت لها في الكتابات النقدية، ومازالت الكتب تصدر سنويا عن الستينيين. 
النصير، كان خطّه هو تجاوز كل ما هو غير شعري، والاكتفاء بالشعر، وما تمثّل منه عبر محاكاة الواقع وتجلياته. فلغة الكتاب، تقترب من اليومي والمعاش، وتقترب من لغة النقد التي لابد من أن تكون رصينة، تتسامى عن المفردة العادية غير المؤثثة بخطاب أدبي. 
فهو يمنح لغته طاقة ثقافية وأدبية، بقدر ما هي عالية، بقدر ما هي لغة متسامحة، تؤمن بأن المتلقي لابد أن يكون عابرا لكل التصنيفات الأدبية والاجناسية التي يسعى كثير من النقاد إلى أن يوجهوا خطابهم إلى نمط معين من المتلقين، وهو ما يستدعيهم شحن كتاباتهم بطاقة كبيرة، لا تؤدي إلى نضج تلك الكتابات، بقدر ما تؤدي إلى إحراقها في نيران التعقيد والغموض المفتعل!.
- يسعى النصير إلى إشراك القارئ في خطابه النقدي، عبر منحه فرصة التفكير، والرجوع إلى المصادر الأولى التي استقى منها خطابه. فحين يدرج بعض خصائص قصيدة الحداثة الثانية ومن ضمنها أن تلك القصيدة تبتدئ من الواقع ولكن مشحونا بخيال المادة، ممتزجا بخيال الشاعر لتأليف وحدة كونية للرؤية.. من دون أن يذكر مثالا يؤكد كلامه، إنما هي مناورة ذكية منه لإرغام المتلقي على العودة إلى النصوص التي كتبها الستينيون، كي يكتشف بنفسه مدى صحة هذه الخصيصة، وقد لا يكتشفها القارئ تبعا لإدراكاته، أو لا يجد في الشعر الستيني، ما وجده النصير، وهذا أمر طبيعي، لأن النصيّر، جعل من مقولة سقراط: قد لا يكون ما أقوله حقيقيا بالضبط، لكن شيئا يشبه هذا يجب أن يكون حقيقيا. وهو ما يستدعي القول بأن النصيّر، إنما يريد من قارئه جهدا أكبر من القراءة وأعمق من الدخول في الرجوع إلى مصادره الأول، بل يريد منه أن يغوص في عوالم تلك النصوص، ويفكك ما يجده من رموز، ويقرأ بهدوء ما يعترضه من مطبات لغوية، وصولا إلى تبيان صحة ما كتبه النصير هنا. 
- يؤمن النصير بأن النقد ليس منفصلا عن النص الأدبي، الشعر تحديدا، فهو عندما يجد أن قصيدة الحداثة أتاحت مشاركة فاعلة للقارئ، من زاوية أنها لا تقدم الحلول الكاملة، فهو أيضا لا يقدم نقدا كاملا، ولا يجعل قارئه مكتفيا بنصه فقط، بل يرغمه على أن يسهم في الكتابة، فحين يورد خصيصة ولا يذكر مثالا عليها، أو يتحدث بلغة خطاب عام، إنما يدفع القارئ إلى تقصي صحة ذلك الخطاب. وعندما يكتب بلغة فضفاضة، مطاطية، فإنما يفجر أسئلة لدى القارئ، ويرغمه إلى قراءة ما بين النصوص، لاكتشاف المكامن التي تقع خلفها. 
-حين يكون النص نتاج تجربة حياتية، أو جراء انفتاح الشاعر على مجتمعه، أو نتيجة لتطورات وأحداث دفعت الشاعر إلى تطوير نصّه من خلال البحث عن أدوات جديدة وطرائق جديدة للتعبير عما يريده، فإن النصير، يرى بأن نقد تلك النصوص، لا يقف بالضرورة عند حدود النص، بل يتعداه إلى ما بعده، بل يتعداه إلى افتراض الوقائع والأحداث التي صاغت ذلك النص، وافتراض ما عاناه الشاعر وما عناه.
 لذلك، نجده لا يكتفي بنقد النص، نقدا ادبيا خالصا، بل يتعداه إلى نقد الواقع ونقد السلطة السياسية والاجتماعية، ونقد النية الأخلاقية للمجتمع. 
يقول: ما كنا نفعله على مستوى النقد، هو قصور واضح، أننا نقيس تحولات واقعنا الدراماتيكية عبر الانتاج الأدبي والفني فقط، متناسين ان الآداب ليست إلا نتاجا أحاديا لفاعلية الواقع.. فالشاعر، لا يكفي لاعطاء صورة عن الواقع ما لم يستتبعه النقاد، بقراءة فاحصة لذلك الواقع. وكأن النصيّر هنا، يرى أن عمل الناقد لابد أن يكمل عمل الشاعر، والنقد هو امتداد للشعر وللنص بصورة عامة. 
إن كتاب {شعرية الحداثة.. الحركة الثانية لقصيدة الحداثة} بصفحاته الـ {500} صفحة، هو جهد نقدي، يسعى لانتشال النقد من نمط تقليدي، إلى نمط أوسع وأعمق، يحتضن النص والقصيدة والشاعر والمتلقي والمدينة ووو..