نـظـريَّـة الـثـقـافــة

ثقافة 2021/06/06
...

 حميد حسن جعفر
قد لا يجد القارئ/ المتلقي بين يديه إلا القليل من المبررات التي تبين له وبوضوح كيفية نشوء الدكتاتوريات، وطرق صناعته الأنواع متعددة من الثقافات، كل واحدة من هذه الثقافات تكون قادرة على انتاج العديد من القناعات التي تحول الإنسان/ القارئإلى تابع، ومن ثم تؤكد إمكاناتها على صناعة الحس الجمعي/ القطيعي، الذي لا يقود إلا إلى التهلكة. 
جميع السلطات - إلّا سلطة الابداع عامة، والأدب/ الشعر خاصة - تعمل على تدمير بنية الثقافة، وعلى سلب اللغة فعلها/ حراكها وتحويلها إلى عملية اجترار، لذلك لا يمكن انتاج النص الشعري خاصة تحت سلطة الآخر.
الحكومات، وإذا ما تم انتاج نص ينتسب للشعر، فهو حالة وهم من الممكن أن يسقط في أول امتحان. 
السلطات الشمولية / العسكريتارية استطاعت أن تنتج مهرجانات ومواسم وموائد مستديرة، استطاعت أن تمتلك الصحف  والجرائد والإعلام والمجلات وأدوات السمع بصرية، استطاعت أن تمتلك الكثير من الغوايات مثل دور النشر والصحافة والمكافآت والإيفادات والمراكز الوظيفية، استطاعت أن تمنح الألقاب والجوائز، إلّا أنها لم تستطعْ أن تصنع القارئ/ المتلقي الذي يستقبل ما تبث ماكنة الاعلام والكتابة، القارئ الذي تمكنت من صناعته، قارئ يعمل بالسخرة، قارئ باهت، قارئ من غير ملامح، قارئ هلامي سرعان ما يتخلى عن  تلك السلطات وحركتها الثقافية، لعدم أحقيتها بالبقاء، رغم ارتباطاته الفكرية والتي كثيراً ما تقف تحت سلطة الاملاءات. 
لقد استطاعت السلطات وعبر تلك الثقافة أن تقيم حروبها المعلنةَ والمخبوءة على مستوى الافراد والجماعات، والدول كذلك أن توفر الكثير من الدمى.. جمعيات لشعراء شعبيين والتماثيل والفزاعات التي تنتمي لها (شعراء وشواعر، قصاصون وقاصات، روائيون وروائيات، نقاد من الجنسين، تشكيليون وتشكيليات، مسرحيون ومسرحيات، هتافات، وتصفيق) على المستوى المحلي والإقليمي، بل وحتى الدولي كذلك.
إن هذه الدمى التي ابتدعها الاعلام الشمولي لا يمكنها أن ترى أبعد من أطراف أنوفها، لم تستطع أن تستشرف المستقبل، ولم تستطع امتلاك الرؤية التي تؤهلها لخلق حالة ابداعية توفر للمتلقي وجودا مفترضا لزمن مستقبلي أكثر إشراقا.                 
لقد كانت الانظمة الشمولية قادرةً على خلق كمٍ هائلٍ مما يسمى بأدبيأو ثقافة أو فكرلكنها كانت تفتقر للرؤية/ للفلسفة التي بإمكانها تحويل الكم الى نوع،ومن ثم فقدت العين الثاقبة، والتي من الممكن أن ترى أو أن تقرأ ما بين السطور أو ما خلف الأقنعة، تلك الرؤية التي لا يمكنها ان تلغي الغابةَ التي تقف خلف الشجرة.
لقد كان النظام الدعائي والإعلامي والثقافي مقتنعاً تماماً برؤية الشجرة وغير معني بما ينتشرمن عوالم فسيحة مليئة بالشجر والكائنات والاشكالات. 
كان غير معني بثقافة الآخر، والذي قد يشكل نداً قوياً وليسعدوا أو خصماً، والذي قد لا يشكل وفي المثير من الأحيان هدفاً معادياً. 
الثقافات الشمولية لا يمكنها أن تشكل منظومة تنتمي للحضارة، أو للمدنيةً فالحضارات ليست من أعرافها وتقاليدها أن تكون منتمية في يوم ما الى القمع والإقصاء.
الحضارات هي نتاج للحوارات، ولحرية القول والمعتقد والانتماء، وحرية الاستقبال هي نتاج المغايرة، والاختلاف، وليس نتاجاً للثبات، وصناعة الشطب والحروب.
عند هذه النقطة على المثقف عامة والمبدع خاصة/ أي الإنسان المنتج للأدب والفنون والثقافة عامة أن يعمل على صناعة القارئ الباحث عما يستطيع أن يقوله الكاتب، ليتمكن أن يكون جزءا مما تمثل تصورات مستقبلية لم يسر الكاتب لها.
لم يعد في يومنا هذا - وذلك بفعل انتشار المنابر، واجهزة البث الصوتي والصوري-الحصول على القارئ الفطن، والذكي عملية صعبة فحسب، بل بات عملة نادرة، وبات الذين يقرؤون -كماً ونوعية - أقل بكثير ممن يكتبون ويحررون، ويدونون.. لذلك فالوضع الثقافي وسط طقس كهذا يشكو حالةً من الفقر المدقع، والاملاق الذي لا مثيل له، يعاني ويشكو من انخفاض المستوى النوعي للقارئ، وكذلك انخفاض الأعداد المنتمية للقراءة - هذا الفقر والانخفاض لا ينتمي الى حالة تدوينية، بقدر انتمائها الى انتشار البث الشفاهي، السهل الاستقبال، السهل الهضم، الذي لا يكلف مالاً او جهدا ولا يسبب قلقاً، بل يوفر الكثير من الطمأنينة القائمة على الوعود، وصناعة الوهم.
فالإنسان اليوم وبسبب الوضع العنكبوتي للحياة - اقتصاد أو سياسة وثقافة - اختلطت بين يديه الأوراق، واختلط الحابل بالنابل كما تقول العربُ، وما عاد هذا الانسان سوى - حاطب ليلٍ- لا يعلم ولا يرى أين تقع شفرةُ فأسه.
إن فوضى الحياة، وارتباك مفاصلها واضطراب المنظومات المنضوية تحت رحمتها، دفعت بالإنسان/ القارئ الى التخلي عن صناعة المدن الفاضلة/ الحلم، والاكتفاء بهندسة المدن التيورثها عن الأنظمة السابقة ضمن رؤيةٍ غير واضحة تقول (إن البارحة خيرٌ من اليوم/ وإن اليوم خيرٌ من الغد) هذه الرؤية التي توفر قناعة من أن المستقبل لا يستحق ركوب المخاطر.
إن الوضعَ الثقافي بحاجة الى خريطة جديدة، بحاجة الى نظام جديد، لا يمت بصلة تواصلية بما سبق من عاهات وأمراض وأوبئة هي نتاج لأنظمة لا تنتمي للمدينةً والمعاصرة بقدر انتمائها لأزمنة موغلة بالقدم. 
تلك الصلة التي يحاول الكثيرون ان يجعلوا منها الحبل السري الذي يربطهم بالواقع المعيش، وهؤلاء الكثيرون كثيرا ما ينتمون للثقافة المتوارثة/ حالة الثبات، التي ترى في المنجز الماضوي قوةً قادرةً على الوقوف الى جانب السلطات في مواجهة الانهيارات التي بدأت بالنظام الشمولي، في أرض السواد ولن تتوقف. عند سواه من الأنظمة القمعية. 
لقد كشف السقوط عن هول الهوة التي تركها خلفهم الكثيرون من ضحايا النظام، هذا النظام الذي استطاع أن يحول المدنس إلى مقدس، والنباح إلى ممنوعات، ليجد المواطنون/ المتلقون أن الثقافة لم تكن حينها إلّا محاولة لحراثة المسطحات المائية.
فالأسس التي كانت تقوم عليها هي الابعاد والعزل التي كان ينتهجها النظام ومنظوماته بحق الآخر،سواء كان فكرياًاو ثقافياً أو سياسياً، هذه الأسس لم تستطع أن تؤتي أُكُلَها، وذلك بسبب ما كانت تعانيه من حالتي عقم وإقصاء، ومن حالات قمع داخلي -داخل التنظيمات المنتمية للسلطة نفسها- إذ لا يمكن لمنجز إبداعي أن يتحول الى - نقطة - وأن ينمو ويشب بعيداًعن رحم الحرية والتي هي الفضاء المفترض توفره لحالة الاخصاب.
إن الأنظمة الشمولية لم تكن ترتكبوزرأخطاء بحقدالآخر،بل كانت منتجة لحالات قمع لا تنتمي للأخطاء،اذ ان الأخطاءحالات وممارسات يمارسها الكائن البشري منذ بدء الخليقة عن وعي وقصد أو من غير تدبير، بعيدا عن صناعة الأذى،بل ان التجارب البشرية التي تنتمي للخطأ تكاد تشكل إرثاً هائلاً استطاع عبره الافراد والجماعات من تجاوز الكثير من الانحرافات التي من الممكن ان تتحول الى أوبئة تطيح بوجود ما يسمى بالكائن البشري.
إذ إن الخطأ لا يشكل إلا الوجه الآخر للأفعال الصحيحة، وبذلك يشكل هذا الفعل حالات لا تؤدي بحياة الانسان الى النهايات بقدر ما تفتح أمامه منافذ للاختيار والبحث واجتناب الضرر.
فالأخطاء وسيلة الانسان للوصول الى حالة من احتواء التكسرات، والاحتيالعليها عبرامتلاك الانسان لمختبر الانتقاء،فكثيراً ما يتوقف هذا الإنسان أمام العديد من الاختيارات/ الاختبارات غير المتماثلة، بل المختلفة، بل هي اختبارات شائكة ومتشابكة، ومتداخلة، فما عليه عند هذه  حالات سوى ان يستفز مستنفراً قدراته على صناعة الاختيار الأكثر قدرة على تمثيل افكاره ومعتقداته، بعيداًعن إلغاء الاختبارات الأخرى عبر تحريم التعامل معها.
عند هذه النقطة تتحول الاخطاء الى نقاط ضوء تمنح الرائي القدرة على تجنبها وتجاوزها والحث على اختيارات أخرى تتم عبرها حالة الوضوح/ الإضاءة.