الفقد

ثقافة 2021/06/06
...

حميد المختار
 
في عمودي لهذا الأسبوع كنت حائرا تماما وبلا مزاج ولا رغبة في كتابة شيء، لكنه الإحساس بمسؤولية الكلمة والرغبة في التواصل مع النفس والآخر، فضلا عن مواصلة الحياة لأنها لاتقف على أحد، هي ماشية وتجري كجريان الأنهار الأبدية بلا توقف ولا رغبة سوى في النسيان امام وحش الفقد الكبير الذي احتل أركان الروح وجنبات النفس، لهذا يقول جلال الدين الرومي: أريد صدرا مزقا مزقا برحّه الفراق لأبوح له بألم الاشتياق، فكل من قطع عن أصله دائما يحن إلى زمان وصله، ويقول جبران خليل جبران يصف حالة السيد المسيح عليه السلام: المحبة لاتعرف عمقها إلا ساعة الفراق، بينما يقول نجيب محفوظ: أكثر مايوجع في الفراق أنه لا يختار من الأحبة إلا الأجمل في العين والأغلى في القلب، وفي قصيدة لشاعر اسمه علي بن محمد:
ولقد نظرت إلى الفراق فلم أجد
للموت لو فقد الفراق سبيلا
يا ساعة البين الطويل كأنما
واصلت ساعات القيامة طولا
لقد حفل بالفقد والغياب والشوق الكثير من ثقافات الشعوب والحضارات قديمها وحديثها، ففي رواية (إن أخذ الموت منك شيئا رده إليه) للروائية الدانماركية نايا ماريا ايت، قامت بالترجمة الكاتبة دنى غالي، تقول المؤلفة: إن أخذ الموت منك شيئا فردّه إليه ردّه إليه، هذا الذي حصلت عليه من ذلك الميت، حين وقفتما تحت المطر تحت الثلج، تحت الشمس وذلك الميت كان حيا، أدار وجهه نحوك كما لو يود سؤالك عن شيء لم تعودي تذكرينه وهو نساه أيضا وذلك أبدي أبدي،،، منذ هذه اللحظة ونحن في العراق نعيش حالة خاصة جدا هي ألفة غريبة وعريقة مع الفقدانات والموت والحزن والبعد والفراق لذلك تجد موسيقانا واغانينا ورقصنا الهستيري وأنيننا في المواويل الجنوبية والآهات والياويل تجد كل ذلك يمتد امتدادا سحريا في عمق النفس البشرية العراقية بلا حواجز او عراقيل، ثمة حنين ورغبة في مساكنة الماضي الحزين، الماضي المقيم في حاضر بليد يخلو من الملامح، حاضر يبتكر سواده من لون اليافطات التي تملأ الشوارع، فقدانات في كل مكان، حرب وموت وحرق وغرق وقتل بالكواتم والمفخخات والمواجهات والدخانيات في ساحات التظاهر، كل هذا ترك جدران البلاد سوداء من قماش الفقد وجعل أردية النساء سوداء من الترمّل واليتم وجعل قلوب القتلة والسياسيين الفاسدين سوداء من الخيانة والضغينة والحقد وجعل من أحبار الشعراء سوداء من الحزن والفقدان وورق الروايات تخرج سوداء الروح من الثيمة الأليمة والحدث المتفاقم حد الفجيعة. إنها حالة حزن عراقي بامتياز يعيشها قلم صار يشعر باليتم والغربة والتوحد
والعزلة.