جوّال أفكارٍ وأحلام

ثقافة 2021/06/06
...

  رعـد فاضل
(1)
ليس كل حالم شاعراً أو كاتباً إن لم يكن متمتعاً بقوة التأمل، وبالقدرة على التعبير عن هذه التأملات، إذ من شبه المستحيل على الحالم غير الشاعر والكاتب أن يعيد صياغة أحلامه صياغة شخصية لا نقلية، أي إن كل ما يفعله ليس إلا نقل حكاية حلمه بإخلاص شديد من دون صياغة تأملية ذاتية. إن تحقق الأحلام يعني موتها إلى جانب حالميها، وفي الوقت نفسه يعني بداية أحلام أخر وحالمين آخرين. أن لا يموت حالم بتحقق أحلامه لا بد أن يكون قادراً على مواصلة التأمل.
(2)
ما اللغة السّياقيّةُ إلّا تلك التي نتداولها في النّهار ((لغة الحياة النهاريّة)) تلك المُراقِبة، لغة ((الشِّعر الطبيعيّ)) اللغة ((الموقَّعة بالعروض الشّعرية الاستبداديّة)) كما يعبِّر باشلار. هذا يعني ضمنيّاً أنّ هنالك ما يمكن أن أسمّيه (اللغة الليليّة)، إذ مادامت هنالك حياة نهاريّة للغة فلا بدّ أن تكون لها حياتها الليليّة أيضاً، وقد يكون عنى بـ ((الحلم الليليّ)) الذي يخوض دائماً ((صراعاً عنيفاً أو محنَّكاً ضدّ الرقابات)). وعلى هذا يمكن أن نستنتج أنّ ((الحالم بالكلمات)) الليليّة هو الأعمق تأمّلاً، ذلك أنه يتأمل الأشياء الحلميّة ويتداولها وحده لأنّ محيط حلمه (الليل) فهو متنعِّمٌ بالهدوء والعزلة اللذين يُعدّان نفسيّاً وذهنيّاً من أهمّ متطلّبات محيط الحلم والحالمين، بعيداً عن رقابات النّهاريينَ وصخبهم ((ففي التأمّلات المتوحَّدة يمكننا أن نقول كلّ شيء لأنفسنا، لا نقوله حقاً
إلّا لأنفسنا)). 
من هنا أليس لا بدّ أن يكون كلّ شاعر متأمِّل ليليّاً، يفكّـر بالكلمات التي صادفها في حياته النّهاريّة المشترَكة مع الآخرين، ويكتبها في حياته الليليّة إذ لا يشاركه فيها أحد؟، ولأنّ الكاتب المتأمّل يمكن تحليل كينونته إلى ذاتينِ: ذات اجتماعيّة ثقافيّة مندرجة في بيئة أو محيط ما، وذات متأمِّلة، فهذا يمكن أن يعني أنّ الكاتب وهو يكتب تأمّلاته ما هو إلّا آخَر، فكيف يمكن أن لا أقف حائراً مستغرِباً ومشكِّكاً أمام التّطابق الذي يجزم به باشلار من أنّ ((هذا الآخر هو نفسُه))؟!.
كلّ إنسان هو فنّان، ولذلك فإنّ الفنّ لم يعد ضرورياً. هذا من أهمّ ما كتبه بورخيس في (يوتوبيا رجل متعَب)، وهو يتصوّر عالماً خالياً من الأدب والفنّ وملحقاتهما الثقافيّة من مكتبات ومسارح...، متحوّلاً كلّ شيء فيه إلى السَّويَّة والطمأنينة والصّمت. زاوية النظر هذه طبعاً كانت من جهة كاتب وقتَ كان مغموراً بوصفه واحداً من أولئك الناس الفنّانين، حتى تناوشته الشّهرة التي ((نبشت في آخر الأمر ذاك الكاتب المغمور الذي كانه في ما مضى)) كما كتب عنه سيوران، أي بعد أن تحوّل إلى كاتب شعبي. سعى بورخيس في أكثر منجزه تميّزاً إلى تصميم بوينس آيرس (أخرى)، بوصفها مدينة ميثولوجيّة أو محلوماً بها ذات ايقاعات حياة وتاريخٍ وثقافة وعلاقاتٍ صارت تُعرَف بها أدبيّاً أكثر من المدينة الواقعيّة الأصل، لننظر إليها أكثر ما ننظر على أنّها- وإن كانت موجودة واقعاً وفعلاً- مدينةٌ يوتوبيّة كونها مليئة بالسّحر والغموض والدّهشة والأسرار، مدينة ((المألوف اللامألوف))، على أنّها بورخيس بوصفه مدينةً لا بوينس آيرس الواقع، على العكس تماماً من ما رآها أحد معاصري بورخيس (مانغويل) من أنّ ((بوينس آيرس تشعر حالياً بأنّها واقعيّة أكثر لأنّها موجودة في أعمال بورخيس))، كونها في ظنّي تشعر بيوتوبيّتها أكثر لأنّ جذورها قد تحوّلت إلى جذاميرَ بوجود بورخيس، لأنّها أخذت تمتصّ عصارة سحرها وغموضها من تربة الكاتب ومائه، حتى باليرمو حيّ بورخيس الذي استمدّ منه المصمِّم بورخيس مناخَ شخصياته (الكومباتريدوس)، أولئك ((الأشقياء المحليّون الذين كان يرى فيهم محاربي قاع المدينة وشعراءه))، في إيحاء منه إلى أنّهم لا يقلّون سحراً وتميّزاً وقوّة عن ((سلالات الفايكنغ
القديمة)). 
لذا فإنّ هذه المدينة الميثولوجيّة هي خاصّةُ ابنها الكاتب المدهش، هي ((المركز الميتافيزيقيّ للعالم))، كما كان يحلو لبورخيس وصفها، كما مدينة أيّ كاتب آخر يعيد تصميمها بموادّ سحره ورؤيته اليوتوبيّة. إنّها المدينة المكتوبة أدبيّاً، قوامها الشِّعر بوصفه سحراً ومعرفة، والسّرد بوصفه اعادة تصميم وبناء قصصيّاً وروائيّاً، إنّها ((مكتبة بابل)) التي تقلّبَ بين كتبها الحالمُ الأعمى الأكثر قراءة في تاريخ العميان.
ما دام ((كلّ كاتب يبتكر أسلافه المؤثّرين في أدبه))، فهذا يعني أنّ بورخيس يرى قراءة كاتب ما لأعمال كتّاب سابقين؛ هي في الحقيقة العميقة كأنّ جميع أولئك الكتّاب هم هذا الكاتب نفسُه من جهة أنّنا بوصفنا كتّاباً شئنا أم أبينا، غالباً ما لا نبحث إلّا عنّا نحن وعن وجودنا في كلّ كتاب نقرؤه، لا على كاتب هذا الكِتاب ((أكثر الكتب إفادةً هي تلك التي ينجز القرّاء أنفسُهم نصفَها)) إذا ما اقتبسنا من فولتير، أي كأنّنا كنّا موجودين قبل هؤلاء الذين نقرؤهم أو معهم. من هنا كان بورخيس غالباً ما يرى بأنّ ((الكتاب يتغيّر بحسب وقعه لدى القارئ))، ذلك أنّ لكلّ كِتاب قارئاً معنيّاً به عناية كبيرة فيُبرِّزه، وهذا ما يمتّن وجهة نظر دريدا بشأن الإرجاء والأثر من جهة أننا بوصفنا كُتّاباً- قرّاءً مرجَّؤون بالنسبة إلى الكتاب المُؤلَّف قبلَنا بكثير أو قليل، لنكتشف الآن ذواتنا الكتابيّة فيه عبر ذواتنا القرائيّة، وهذا هو فعل أثر القراءة الحقيقيّ عند كلّ كاتب حقيقيّ. إذاً أنْ تقرأ كتب الآخرين يعني عمقيّاً أنّك بوصفك قارئاً إنّما تبحث عنك بوصفك كاتباً. 
من هنا ليس في هزيمة شاعر أو كاتب اِشكاليّ ما انتصار لأيّ قارئ ما، إن كان هنالك من لا يزال يعـدّ قراءة نصّ إشكاليّ هزيمةً لهذا النصّ، ذلك أنّي سأسأل: تُرى أيُّ الذّوات التي يتمتّع بها هذا الشّاعر أو الكاتب قد هزِمت؟، أن أنتصر بوصفي قارئاً يعني أنّي قد توقّـفتُ عن أن تكون منضدةُ رمل التّفكير أمامي، عن وضع الخطط ورسمها، عن تقليب النّظر في الأشياء، يعني أنّي قد توقّـفت عن النّقـد، يعني أنّي لست سوى عالة على ما أقرأ. هذه هي عمقيّاً الهزيمة
هنا.