المدينة الباريسيَّة

ثقافة 2021/06/07
...

  حبيب السامر
 
تبدأ الدهشة الأولى من لحظة هبوط الطائرة في مطار السليمانية، وأنت تنظر الى موبايلك وقد تغيرت درجة الحرارة من 46 مْ الى 26 مْ في ذلك اليوم الحزيراني القائظ.. تتأمل الرقم المحصور بين الدرجتين، تقفز أمامك صورة الشمس الشاقولية وهي تخترق الرأس وتترك عمودا حاميا في جسد المارين في شوارع البصرة.
في هذه اللحظة، وبعد الإجراءات التقليدية في مطارات كردستان، تجد باقة ورد طبيعي بانتظارك من الجهة التي قدمت لك الدعوة لحضور مهرجانها السنوي، مع ابتسامات على سلامة الوصول، لتدلك اللجنة على مكان إقامتك.عادة، في مدننا تعودنا النظر أفقيا، ولكن ما أن تكون في هذه المدينة حتى تتعود الى النظر الى الأعلى بشكل مستمر، مدينة تقع بين سلسلتين من جبلين شاهقين هما جبل كويزة وكله زرده.. ويطالعك جبل أزمر وقد رصعته الأضواء بجمال آسر.. تأخذك اللحظات وأنت ترنو نقطة ضوء بعيدة على قمة جبل.. تمد يدك لتمسك الوقت وتقبض براحتيك على هذه اللقطة المبهرة..مدينة لها عمقها الثقافي وإرثها المعرفي، أسماء راسخة في الذاكرة: شيركو بيكه س، خضر أحمد الملقب بــ (نالي)، مولوي، بيرميرد.. ويذكر أن الشاعر بيكه س قد حصل على جائزة توخولسكي الأدبية من السويد وجوائز أخرى.
في هذه المدينة الباريسية التي أسسها ابراهيم باشا عام 1784، تبهرك الأسواق والمكتبات والمقاهي المتنوعة ومنها مقهى الشعب، والحدائق الجميلة في شارع سالم، تجذبك الحديقة العامة التي تعد من أقدم المتنزهات في السليمانية ببساطها الأخضر من الثيل الطبيعي، وأشجارها العالية التي تسوّر الحديقة وتتوزع بعناية ومهارة زراعية، فضلا عن المصاطب الجميلة التي تحيطها شتلات الورد.. كما وتلفت نظرك النُصب المتوزعة بين أرصفة الشارع لرموز ثقافية وإنسانية ومنها: مولوي، نالي، محوي، سالم.
كل هذا في وصف المدينة ورموزها الابداعية والآثارية وجمال طبيعتها، لكن الأجمل حين تحتضن محورا مهما في حياتنا التي تقنّعت بأنواع متعددة، وأشكال لا حصر لها.. نعم، في هذه المدينة التي شهدت مشاركات في ثقافات متنوعة تحت عنوان (حوار إزالة الأقنعة) في ظل جائحة قاسية، خانقة أحاطت بنا ومزقت الأقنعة كلها، كي تستمر الحياة بنبضها وإيقاعها المتناغم مع الشعر والقصة والبحوث والدراسات النقدية والرؤيوية والموسيقى التي كانت حاضرة بقوة، في مهرجان كلاويز 24.
كنت جالسا في الصف الأمامي، وعادة في مهرجانات بثقافات ولغات متعددة نحتاج الى آلية الترجمة الفورية التي وفرتها إدارة المهرجان بتنسيق وحضور رائعين، وبحركة دائبة من التشريفات التي زينت المهرجان، كلما سألت الشابة العشرينية التي تقف على مقربة منا، تردد: نازانم.. حتى وصل بي الحد الى كتابة ومضة سريعة وليدة في القاعة المخصصة للمهرجانحزين جداً/ كلما قلت لها: إن عينيك جميلتان/ قالت: نازانم. طلبت من مقدم الجلسات الذي كنت في تواصل معه أن يترجم للشابة الجميلة هذه الومضة، وبسرعة وابتسامة كانت تنظر في موبايلي وهو يترجم لها، ابتسمت وقالت هذه لي؟!، التقطت بموبايلها صورة للومضة، واقتربت مني لنوثق اللحظة بلقطة جميلة.حتما، ستتوالى الومضات في حضرة الجمال والأشجار الباسقة والأضواء البارقة على قُنَّةُ الْجَبَلِ، والمنتشرة في مدينة ساحرة كأنها في حوض الجنة.