عن محنة المثقف العربي

ثقافة 2021/06/07
...

د. حسين القاصد
 
لم تكن أزمة الثقافة ولا أزمة التثاقف جديدتين على المجتمع العربي الذي ما زال يئن تحت سياط النقص المسلطة عليه، فبين مكفرٍ وحاسد، يراد للمثقف أن يسكت، وان يتم ترويضه.
 يقول العلامة الدكتور محمد حسين الأعرجي: إن الأزمة ليست من بنات اليوم، وأنا أعني ما أقول، لأنـني رأيت التاريخ العربي الإسلاميّ يحدثـنا عن محنة ابن حنبل، وعن محاكمة محمد بن علي بن أبي العزاقر، وابن أبي عون الكاتب، والحلاج، وسواهم من مئات المثـقـفيـن. 
إذن، الأزمة ليست جديدة. ولكنْ يلفت النظر في هذه الأزمة العربية المُستحكِمة أنها أنجبت - رغم هذه المِحن - مثـقـفيـن كانوا كبارًا في أيامهم وظلوا كما هم كبارًا إلى يوم الناس هذا من مثل: الخليل بن أحمد، وابن الأعرابي، وأبي حاتم السجستاني، والكندي، والجاحظ، وأبي حيّان التوحيدي، والفارابي، والمتـنبّي، وابن سينا، وابن رشد، وسواهم من المئات. وقلتُ: إن الأمر يلفت النظر لأننا لم نسمع ولم نقرأ أن حَاسَبَ أحد المتـنبي يوم هجا الممالك العربية، والأعجمية جميعـًا من دون استثناءٍ في قوله:
وإنما الناسُ بالملوك ولا       
تـُفلِحُ عُربٌ ملوكها عجَمُ
ولم نسمع أن حَاكمَ أحد أبا نواس على مجونِه، أو على قوله:
فما أنا بالمشغوفِ ضربةَ لازبٍ     
ولا كلُّ سلطانٍ عليَّ أميرُ 
لم نسمع هذا، ولم نقرؤه، ولو كان المتـنبي أو أبو نواس قالا قولهما هذا في أيّامنا لاتـُّهما - من دون أدنى شك أو ريبٍ - بالخيانة العُظمى التي عقوبتها الإعدام.
كان المتـنبي ينشد جالسا في حضرة ممدوحه الذي لا يبقي له من القصيدة سوى شيء قليل لا يرضي طفلا صغيرًا، وكان ينال استحقاقه كحر عظيم، فالشعراء كانوا في ذلك العصر موظفين يؤدون ما تريده السلطة - على حد رأي العلامة الأعرجي - وقد بدا هذا واضحا منذ حسان بن ثابت حتى بلغ حدا غير معقول في العصرين الأموي والعباسي؛ واستمر في عصر الصراع الايديولوجي حيث القرن العشرين؛ لكن بقي المثقف الرافض أعلى كعباً، ورأينا حسين مردان، وقرأنا قصائد رفض وقصائد رأي للجواهري وغيره، ولم يتجرأ أحد على إسكات الأديب أو قمعه، وأعني بالإسكات هنا هو الإسكات النهائي؛ فأغلب من لم يرق لهم الأمر ولم يتفقوا مع السلطة احتضنتهم المنافي، وظلوا يبدعون من بعيد؛ والأمر ليس في العراق فقط، بل هو في أغلب البلدان العربية لاسيما تلك البلدان التي اختلفت انظمتها السياسية في ما بينها، ووصل الخلاف حدَّ العداء، فصرنا نرى كلَّ بلد يحتضن المثقف المعارض لخصمه، لكن لم يحدث التكميم والإسكات النهائي، على الرغم من ان جميع السلطات تشعر بالنقص تجاه المثقف وتحاول تطويعه كي يتبعها.