الانتقاء

ثقافة 2021/06/09
...

 محمد صابر عبيد
 
يوصف {الانتقاء} بأنّه وسيلة حيويّة من وسائل التعبير الجميل الراقي عن الذات على وفق قناعات معيّنة ورؤيات معيّنة ومرجعيّات معيّنة، ولا شكّ في أنّ هذه القناعات والرؤيات والمرجعيّات التي يقوم عليها فعل الانتقاء هي التي تؤلّف ما نصطلح عليه {الذوق}، وهذا الذوق هو من يحدّد آليّات الانتقاء ومنهجه وطريقته وأسلوبه ونتيجته لأنّه جوهر المعيار الشخصيّ لدى كلّ إنسان، وعلى هذا الأساس تتكوّن لدينا فكرة عن طبيعة أذواق الناس فنحكم على شخصٍ ما بأنّه صاحب ذوق رفيع وآخر بأنّه عديم الذوق، استناداً إلى ما تكشف عنه اختياراته التي تعبّر عن جوهر ثقافته وخبرته وتجربته في الحياة جمالياً وفكرياً.
لا تقف قائمة {الانتقاء} عند حالة من دون أخرى، أو عند سلوك من دون آخر، أو عند ممارسة من دون أخرى، فكلّ حالة يتعرّض لها الإنسان تطالبه بالانتقاء، وكلّ سلوك يفرض عليه نوعاً من أنواع الانتقاء، وكلّ ممارسة تقتضي منه أن ينتقي سبيلاً ما من سبل الانتقاء، تندرج حتماً في هذا السياق، فانتقاء الطعام وانتقاء اللباس وانتقاء نوع الحياة والمهنة وغير ذلك هو فعاليّة ذوقيّة ترتبط فعلياً بحساسيّة الإنسان وقيمة ما يعرفه ويؤمن به، ولعلّ أبرز وأوّل وأهمّ عناصر الانتقاء هو عنصر البساطة المشحونة بالذوق السليم الراقي، سواء أكان ذلك في انتقاء أثاث المنزل أو المكتبة  أو الديكور أو كلّ ما يحتاج فعلاً إلى نشاط ذوقيّ فعّال ومنتِج، وربّما يقتضي التوسّعُ في التفصيل الشامل والكامل للمفردات والفعاليّات داخل هذا المضمار اللجوءَ إلى طبقات الحياة بأكملها، من صغيرها إلى كبيرها، ومن أدناها إلى أبعدها، ومن أخفضها إلى أعلاها، ومن أقلّها أهميّة إلى أكثرها أهميّة، ومن أفقرها إلى أغناها، حتّى الوصول إلى انتقاء الجزء المناسب من الشارع العام للمشي؛ حين يجد الإنسان أنّ عليه أن يستغلّ أقلّ ما يمكن من جزء الشارع الأيمن كي يسير فيه، من دون أن يسبّب أيّ إزعاج لمن يشغل الشارع المخصّص للمارّة ذهاباً وإياباً، وهو ما يؤلّف قمّة الذوق.
تكشف الانتقاءات الظاهرة والبارزة في مجمل المظاهر العامة عن طبيعة الذوق؛ الشخصيّة من جهة والجمعيّة المجتمعيّة من جهة أخرى، وثمّة طبقة أخرى من الانتقاءات لها علاقة باللغة الاجتماعيّة والأدبيّة على حدّ سواء، ففي اللغة الاجتماعيّة المرتبطة بالسلوك الاجتماعيّ؛ لا بدّ من أعلى قدرٍ من التلاؤم والانسجام والتوافق بين مفردات هذه اللغة حين الاستخدام ونوع السلوك، وأيّ خلل في هذا التوازن بين طرفَي {الذوق} ينعكس على نحو خطير وبالغ التأثير والإدانة على صاحب الخلل، في حين تدخل اللغة الأدبيّة مدخلاً جمالياً ينتظم أسلوبياً في ما يسمّى {جماليّات اللغة} في التعبير والتشكيل، إذ إنّ انتقاء المفردة وانتقاء الجملة وانتقاء العبارة وانتقاء العنوان وانتقاء العتبات الأخرى أمرٌ شديد الأهميّة والتأثير، يدخل في صُلب عملية صناعة النصوص الأدبيّة ونُظُم صوغها وهندستها 
وإبداعها.
يمثّل انتقاء المفردة في كتابة النصّ الأدبيّ -أيّاً كان نوعه - المهمّة الأخطر في تحديد مصير هذا النصّ ومستقبل هذه الكتابة، فالتميّز الأسلوبيّ الذي يتمتّع به بعض الكتّاب يقع أولاً وأخيراً في حساسيّة انتقاء المفردة المناسبة في المكان المناسب في اللحظة المناسبة، وهو ما لا يحسنُهُ سوى القليل القليل ممّن يدرك على نحو أكيدٍ وواعٍ وعارفٍ قيمة المفردة، على مستوى الشكل والنوع والإيقاع والدلالة والعلامة والإشارة وكلّ شيء يحيط العلاقة بين الدال والمدلول والمرجع والمحيط النصيّ. 
هنا بالضبط يتمّ التفريق بين الكاتب الفنّان والكاتب العادي، بين من يكتب نصاً إبداعياً يلفت الانتباه والإعجاب والإدهاش ومن يكتب {عريضة} يطلبُ فيها شيئاً ما لا يحتمل معنى آخر.
تقع قضية انتقاء العنوان مثلاً في مقدّمة مصاعب الكتابة الأدبيّة وإشكالاتها لما تنطوي عليه العنونة من دلاليّةٍ بالغةٍ في التركيب العام للنصّ الأدبيّ، فمن يحسنُ انتقاء العنوان المناسب للمزاج والتجربة والنصّ ومجتمع القراءة والتلقّي بوسعه بعد ذلك أن يشيّد نصّه على أفضل ما يكون، وانتقاء العنوان ليس مهمّة مستقلّة تتعلّق بمنطقة العنوان وما يحقّقه من إثارة وانتباه وتحدٍّ في رأس النصّ فحسب، بل قدرته على الاشتغال العموديّ {الدراميّ} المُنتِج من بداية المتن النصيّ حتّى نهايته. 
يمكن معاينة فعاليّة انتقاء الأصدقاء بوصفها أرقى مراتب الانتقاء؛ لعظمة مفهوم الصداقة في الحياة وتأثيرها البالغ في صياغة الجوهر الحقيقيّ للمفاهيم الكبرى في الحياة، وعظمة الخيبة التي يتلقّاها من بعضهم حين يكتشف بعد حينٍ فساد انتقائه ووهمه وقلّة خبرته أيضاً، لأنّ الصديق هنا ليس قطعة ملابس {عمياء} يمكن التخلّص منها بسهولة بمجرّد اكتشاف سوء الانتقاء، ولا وجبة طعام تتركها على منضدة المطعم حين تعرف أنّك انتقيت ما لا يناسبك من الطعام؛ وتغادر بلا تبعات سوى دفع الحساب، ولا باقة زهور لا تدرك انتهاء صلاحيّتها إلا حين تحاول وضعها في المزهرية فتضعها في سلّة المهملات بلا أسف، بل هي تجربة في غاية المرارة تحتاج وقتاً طويلاً كي تنزع عن روحك ما علق بها من أشواك، فتخسر كثيراً من مزاجك وثقتك بالأشياء وحساسيّتك الإنسانيّة تجاه الآخرين، فلكلّ فسادِ انتقاءٍ ثمنه؛ ابتداءً من رميه جانباً من غير آثار جانبيّة تُذكَر إلى إنفاقِ وقتٍ طويلٍ في ترميم الانكسارات، وتطبيب الجروح، والتمرّن على النسيان.