أفعى زرادشت

ثقافة 2021/06/10
...

 محمد الحداد
حينما رأى زرادشت ذلك الراعي الشاب يكاد يختنق بالأفعى السوداء الكبيرة «أفعى العدمية» في غفلة منه وهو نائم حاول أن يسحبها بقوة.. وحينما فشل تنبّه فوراً إلى عبثية ذلك طالما كان فعل الإنقاذ خارجياً، فلا بد أن «يعض الراعي بنفسه أعماق الخطر وهو رأس الأفعى صاحب السلطة الحقيقي.. هنا نصحه زرادشت أن يطبِق عليها بنفسه ويعضها بقوة ويبصق رأسها بعيداً عنه.. وحينما فعل ذلك قال زرادشت: «لم يعد راعياً بعد الآن.. واستحال إلى كائن آخر يشعُّ نوراً ويتألق ضاحكاً».
ثمة اُطرٌ ومحدداتٌ يقينية صارمة تحفظُ بداخلها نوابضَ من الشكِ والجدلِ والتكذيب.. تحرسُها بندولاتٌ تتفقدُ عملها ليلاً ونهاراً بمعايرةٍ دقيقةٍ وتتالٍ منضبطٍ خشيةَ الانفلات.. تلك النوابضُ مجنونة جنوناً تاماً، لكنَّ جنونها هذا كامنٌ ساكنٌ ما دامتْ تلك الأطر والمحددات ترقدُ داخلها بسلام.. وحيثما تمرّدتْ تلك النوابض على سلطةِ بندولاتها لسببٍ ما وَفَرَّتْ منطلقة خارجَ أطرها ومحدداتها اليقينية، حينئذٍ لن يكبحَ جماحَ قواها التدميريةِ كابحٌ بوسعهِ أن يوقفَ صعقاتها الزمبلكية المجنونة، لينهي عبثها السلبي ويخضعها ثانية لسلطتها القديمة مُعيداً توازنها المفقود بنبضٍ جديد.
فوضى النوابض الشاردة تلك أحكَمتْ قبضتها على أقلامٍ كثيرةٍ تُشعركَ وأنتَ تقرأ ما يخُطهُ أصحابها أنهم يجلسونَ تحتَ ظلالِ إحدى أشجار العَدَميةِ اليابسة جلسة تبجيلٍ تليقُ بقداسةِ رموزها.. ينتظرونَ بشغفِ العاشقِ الصوفيِّ المُحبَط أن تطرحَ على بؤسِ انتظارهم بعضاً من أوراقها الصفراء المتساقطة ليلتقطها عبيدُ العدميةِ هؤلاءِ كأفضلِ ما يلتقِطُ عبدٌ من مولاه علّها تملأُ بمبرراتها الواهيةِ نزراً من خوائهم مدغدغةً نرسيسَ غروره.
ينتقدُ هيدغر أمثالَ هؤلاءِ بقوله: «المُقعَدون والمُتعَبون من مسيحيتهم هؤلاءِ فقط يُفتشونَ في جملِ نيتشة عن تأييدٍ رخيصٍ لإلحادهم المُلتبس غير الظاهرِ للعيان».. مئاتُ الجُمل «الأوراق» المتساقطة يلتقطها بعضُ هؤلاء ويرفعونها بوجوهنا كنصٍّ سماويٍّ مُبجل لعلَّ أشهرها قولهُ «أي نيتشة»: «لا أنتمي لدينٍ لم أسهمْ في صياغته».
قرآنياً: «ولو اتّبعَ الحقُّ أهواءَهم لفسدت السمواتُ والأرضُ ومَن فيهِنَّ» و:» أرأيتَ مَن اتَّخذ َ إلههُ هواهُ».. ردٌّ حاسمٌ بلا تعددٍ يقيني عبثيُّ المسالكِ.. التباسيُّ المغازي والأهدافِ بالضرورة.. فطريقُ اللهِ بداهةً صِراطٌ أوحد.. وتعدد الصائغين «ما بعدَ نيتشة طبعاً» لن يُلزِمَ أحداً ما أن يرِثَ ديناً صاغهُ غيرهُ طالما أمكنهُ أن يصوغَ هوَ بيديهِ ديناً له!
نظرياً: لا صِفر شخصياً ينطلقُ منهُ أو بعدَهُ جنُّ التشكيكِ الذي يستبطِنُ افتراضياً إنسانَ السوبرِ هذا ويستوطِنُهُ إلا صِفراً يميطُ وشاحَ الخَدَر ابتداءً عن شرنقةِ هذا اللا منتمي العاجز ويؤذِنُ ببدايةِ امتثالٍ وطاعة.. وليسَ قبلَ ذلكَ أي شيء.. لاسيما أنَّ صياغةً مفترضة كهذهِ تبدأُ ب: لا «إبليسيةٍ جاحدة» وتنتهي برسمِ خارطةٍ طبوغرافيةٍ لمساحاتٍ لا متناهية من الوهم تتقافزُ فيها أفكارٌ ضبابية تمتطي صهوة الجحودِ والعناد يُحركها احتراقٌ ذاتيٌّ وسفسطةٌ جوفاء تختنقُ حتماً بمخاضِ إحالاتها اللغويةِ واللفظيةِ المميتة.. ولا مبرر عقلياً لكلِّ ذلك فكلّ الحقائق كانت موجودةً قبلَ أن نكون.. ربما متناثرة هنا وهناك.. تلمعُ تارةً أو تخبو لكنها موجودة ولا يعني فقدنا لها عدم وجودها كما لا يعني عثورنا عليها ادعاءَ خلقها أو صياغتها.. ثمَّ إنَّ اقتضاءَ الصياغةِ اقتضاء حضورٍ أزلي- سرمدي وهو من صفات الخالقِ وحده.
عملياً: بدل تهييج كلّ النوابض المجنونة الساكنة في الاشتغالِ بالضدِّ من مُسلّماتِ المجتمع بوسعِ الثقافةِ بثقلها الأبستمولوجي والجمالي والفكري أن تسهمَ بإثراءِ وعيهِ الجمعي بمزاوجةٍ ذكيةٍ بينَ احتضان سلبياتهِ من جهة.. ومحايثته سيسيولوجياً من جهة أخرى.. لاسيما أنَّ أسوأ أنواع الاشتغال المضاد هذا يتَّبعُ أسلوباً يوغلُ في الشكِ والجدلِ والتكذيبِ المشارِ إليها آنفاً، متمثلاً بالإمساك بمعاولِ الهدمِ الذي يطالُ بنسفهِ الجذور واتخاذهِ أنساقاً تسعى لاستحداث بدائلَ بنائيةٍ جديدة، لا تُراعي تدرّجاً تفاعلياً موضوعياً.
هؤلاء يرفعون لواءً واحداً يجمحُ في سماءِ الكراهيةِ والنسف.. عَبَدوا أهواءَهم حينما ذاقوا طعمَ أنفسهم.. سيظلون يقرؤون التاريخَ بعينٍ واحدةٍ تنبشُ في رمادٍ أبْرَدتهُ السنين وذرتهُ رياحُ الزمن.. وسيمضونَ بعنادٍ في طريقهم السرابي هذا دون أن يعبئوا لمناهج الأغيار.. فهل هذهِ الثمراتِ التي ينتظرها المجتمعُ من مثقفيه؟
إحدى مساوئ هذهِ الثمرات أنها تشظّي المجتمع إلى فضاءاتٍ مُلتهبة «بالنظر لسعةِ رقعة الاختلاف» وتجعل المثقفَ نفسهُ يكتبُ تحتَ تأثير فوبيا محاصرة سلفاً بما سيكتبهُ وتقيدهُ بشِراكها المرعبةِ وتجرهُ باحبولاتها الأخطبوطية، لتنأى بهِ أخيراً بعيداً عن دورهِ الريادي وسط مجتمعهِ وتحوّلهُ من إصلاحي تصالحي إلى صَدموي تصادمي!
لقد استوطنتْ فوضى العدميةِ الكثيرَ من العقول، فتسلطتْ عليها في غفلةٍ من أصحابها وهم نائمون بعدَ أن زغللتْ أعينُهم بسرابها الزائل وبهرتهم بأضواءِ أيديولوجياتها الصارخة، فأصبحوا عبيداً لها.. وأوهمتهم بسحرها المخادع أنَّ بالإمكان أن يُستعاضَ بها عن الله.. ومثل أفعى الراعي استحكمتْ فوضى العدمية هذهِ وعضَّتْ نفسها بثباتٍ أكثر إصرارا تُريدُ الالتحامَ معهم، فكانت النتيجة مزيداً من الخواءِ إلا أنْ يعضّوا بأنفسهم أعماق َالخطر «رأسُ الأفعى» ويبصقونهُ بعيداً عنهم.. حينها فقط سيتحولونَ إلى بشرٍ آخرين يشعّونَ أنواراً ويتألقونَ ضاحكين.