تمثلات المدينة الفاسدة في مسرحية الراديو

ثقافة 2021/06/10
...

 د . سعد عزيز عبد الصاحب  
باسي: اذاً وداعا.. انني باقٍ هنا للمتعة والاثارة ربما كان هناك جوع، لكن بعد الجوع هناك اضواء لامعة ونقود وموسيقى.. وتذكر يا صديقي كل المدن فاسدة. الالي: ربما ولكنها ليست بقدر هذه المدينة.. من هذا المنطلق الحواري ينفتح عرض مسرحية (الراديو) التي كتبها النيجيري (كين تسارواـ ويوا) واخرجها (محمد حسين حبيب) على فضاء قيمي (ديستوبي) من العلاقات الاجتماعية والاخلاقية ما بين عاملين يقيمان في نزل مؤجر كل يبحث عن لقمة عيشه (الالي) يرنو لسد رمقه من مردود شريف فلا يجده.
فيأخذ بالحلم وسيلة للحياة وتفادي الموت ونسيان جوعه وبؤسه، اما (باسي) فهو رجل خشن الطبع قضى حياته محتالا ومراوغا، شكله الخارجي أنيق ومحترم، لكنه متوار خلف عدة اقنعة وحجب يقدمها لكي يبقي على حياته في هذه المدينة الفاسدة (الديستوبيا)، اذ العملة الرديئة فيها تطرد العملة الجيدة، المدينة التي تتناص مع واقع مدينتنا المعاصرة المعاش بكل معطياته اليومية من تعاملات واداءات اجتماعية يكتنفها الغش والتزوير والرشوة، مما حتم نجاحا اكيدا لاختيار مثل هذا النص لعكس الوقائع وتجلياتها الفاسدة على خشبة وظفت جماليا وفكريا، لتعبر عن لسان حال المواطن البسيط في خضم ما نعيشه من رداءة ورثاثة في واقعنا الاجتماعي والسياسي، وعنونة (الراديو) هو ذريعة رامزة للدخول الى عالم الاصغاء والانصات السلبي في التلقي، فنحن في المعنى الاجتماعي متلقون صامتون لا فاعلين وغير عضويين في حياتنا اليومية، ننتظر ما تجيء به ذبذبات المذياع الذي لا يصمت ابدا.. وهو استعارة بليغة لسكوننا وانتظارنا لما سيحصل وبطلان لمفهوم الثورة.
 
القراءة الاخراجية:
الراديو نص شخصيات (كاركترات) وليس نص حبكات نص لعب وتقنع لا نهائي ما دامت هذه الاقنعة  تزال لتأتي اقنعة جديدة لتحل محلها، وهذا ما فطن له المخرج (محمد حسين حبيب) وكرسه في فضائه المجرد المتقشف، الا من سرير عليه شرشف ووسادة ومكعب للجلوس وطاولة ومايكات عديدة تجثم على الخشبة، لتعبر عن صوت الضمير الداخلي الحي للشخصيات وليس اقنعتها المواربة، الشخصيات متغيرة على الخشبة بفعل التزوير والتدليس المستمر ولا حقيقة الا حقيقة (الالي)، ولا شاهد سواه والشخوص القادمة من خارج الخشبة تدخل بلا قيود او استئذان، فصاحب البيت يدخل مخمورا بملابس النوم لا يعي مقدار ما يدخل له من مبالغ عن ايجار المنزل ولا موعد سدادها، راح يبحث في دخوله الثاني عن قنينة شراب الـ(هنجن) التي تحولت الى راديو بفعل  المقايضة التي اجراها هنجن البائع مع (الالي) الذي يريد ان يسد رمقه ببيع الراديو، لكنه لن يباع لاستيلاء (باسي) عليه بالقوة، ليدخل الموظف الحكومي مدعيا الامانة وهو يجبي العاملين بوصولات مزورة، وينتحل (باسي) شخصية رجل امن لكي يكشف خديعة الموظف.. وهكذا هي متوالية دائرية من الغش والخداع لا يستطيع (الالي) مواجهتهان فيغادر المدينة على الرغم من غوايات (باسي) في العودة والمكوث، اضاف المخرج فضاء خلفيا في عمق الخشبة لشخص رث ذي شعر طويل يرتدي معطفا، يستمع لمذياع صامت، وأجد ان اللمحة الاخراجية البارزة جاءت في العمل على النسق الدراماتورجي داخل النص وتكثيف الوحدات السردية وتعميق الدرامية وتحويل اسم (لاغوس) عاصمة نيجيريا الى مدينة مطلقة، تصلح استعارة لاي عاصمة فاسدة وتتجلى البراعة البصرية للمخرج في اختيار الازياء كعلامة دالة للشخصيات الثانوية، فصاحب المنزل يرتدي ملابس النوم ممسكا بقنينة الشراب تائها، لا يدري ما يحصل في منزله في كناية وقائعية ومدلول سياسي لاذع. و(هينغن) البائع يرتدي ملابس فاقعة ملونة باخوسية بهيجة دلالة على الوظيفة الانتشائية للشراب وغوايته للمقايضين. اما الموظف الحكومي فجاء زيه ايقونيا صارما في معنى مدلول من يأتي جادا رصينا وهو في الباطن غشاش.
 
الأداء التمثيلي:
كان الاداء التمثيلي سيد العمل بلا منازع ونضيدته السميكة بفواعل، جالت بين الاسلوبين (التقمصي) و(التقديمي) ببراعة وخفة، وحازت تقنية مسرح داخل مسرح او التمثيل داخل التمثيل مساحة تعبيرية وجمالية واسعة في جسد الاداء التمثيلي،  اذ استعار المخرج هذه التقنية من بنية النص نفسه في ضوء عمليات التقنع المستمرة للشخصيات واللعب الحر القادم من دلالة الزيف والتزوير، الذي تمارسه الشخصيات في ما بينها من أجل أن تبقى على قيد
الحياة. 
ويمكن الاشارة لبذاخة وجودة الاداء التمثيلي للممثل (احمد عباس) في دور (الالي) اذ جاء اداءه مقنعا في تحولاته النفسية وبمرونة جسدية غير متكلفة او مصطنعة، استطاع أن يلون بصوته ويتخلص من (المونوتون) الذي يقع فيه اغلب ممثلينا، لاسيما و(عباس) لم يغادر خشبة المسرح طوال الستين دقيقة زمن العرض، وكذلك ينطبق ذلك على الممثل/ المخرج (محمد حسين حبيب) الذي كان حضوره طاغيا وصوته الرخيم مسموعا، لولا بعض الميكانيكية التي شابت بعض مناطق اداءه وحتما سيتخلص منها باستمرار وقوفه على الخشبة والممثل (مهند بربن)، الذي نهض بدور (صاحب المنزل) امتلك زمام شخصيته وباسترخاء عال. 
استطاع أن يؤكد مقولة ان ليس هناك دور كبير او دور صغير، بل ممثل كبير واخر صغير، وينطبق الامر على الممثلين (حسنين الملا وعلي التويجري) بدوري (هنغن البائع ) و(الموظف الحكومي) اللذين اضافا لمحة فكاهية ماتعة للعرض، واكسباه تنوعا اداءيا رصينا، خصوصا (الملا( الذي خرج عن نمط ادواره السابقة، والممثل (علي العميدي) بصبره واطلالته المائزة في عمق المسرح.