مفقودة ابن زنبل

ثقافة 2021/06/11
...

  أمجد ياسين
 
يذهب الروائي سعد السمرمد في روايته «تحفة الرمال: مفقودة ابن زنبل» الصادرة عن الدار العربية للدراسات والنشر، الى دس احداث واقعية حديثة في سرد تاريخي غني بتفاصيل متخيلة عن ما كان يمكن ان يحدث، ويضعها على لسان شخصياته، تعميقا لدورها كجزء من عالمه المتخيل والحبكة الدرامية، فهو بالنتيجة ساردٌ غير حيادي، يقف عند تخوم عالمه المبتكر، يجمله ويدعمه بما يضيف اليه جودة الصنعة. 
لقد راعى المؤلف التوازن بين نصين سرديين متعاقبين يربطهما الكثير من الوشائج، على الرغم من اختلاف فضائهما، الا انه ابقى خيوطا سرية تنسج هذا الوهم العلائقي، تاركاً للقارئ البحث عن المشتركات بينهما، وعلى سبيل المثال، اسمٌ يبدأ بحرف السين في حكاية ابن زنبل، قارئ الرمل، الذي حذر الحاكم  قنصوه الغوري من أن قاتله يبدأ اسمه بحرف السين، وقد نسج المؤلف حوله عددا من الشخصيات، جعلت من الحاكم يطيح برؤوس كل من كان اسمه يبدأ بحرف السين، حتى وصل الشك به للتأمر على احد قادة جيشه، هذا العمى جعله يغفل عن عدوه الرئيس، العثماني سليم باشا الذي يغزو بلاده، حتى باتت الدولة تسير على هدى كومة رمل قد تعصف بها الرياح في اي وقت. هنا يضعنا الكاتب في لوحة احداثها كثيرة ومتشعبة، لكن يجمعها اطار واحد كبير يمكن ان ندعوه العراق بتاريخه واحداثه وصراعاته ورعونة حكامه. 
هذا الاستدعاء الواقعي ومزجه بالتاريخي الغني بتفاصيل متخيلة سلاح ذو حدين، فالقارئ يعي تماما انه وسط خلطة تستدعي وعيه وخياله وواقع يعيشه، جعل منها المؤلف كيانا سرديا متخيلا بنكهة واقعية قال فيه ما يريد، مراهنا على قارئ يتقبل فنيته من دون ان يسقط في واقعيته.
 
القرد سمير 
في حكاية القرد، ليست مصادفة، ان يضع الكاتب اسما للقرد ويدعوه سمير، هو حرف السين ايضا، وليس اعتباطا ان يخون أكرم بلده مع عصابة دولية يبدأ اسم رئيسها بحرف السين «ستيوارت». 
إن ما خاف منه الغوري في حكاية ابن زنبل وُجدنا صداه في حكاية القرد سمير، فتوحدت النهايات، هذا الانعكاس والتبادلية في البحث عن سين القاتل في الحكايتين كان احد حيل الكاتب لمتابعة القارئ له، وكأن الاحداث في كل حكاية تمر بمرآة الحكاية الاخرى، فيتصاعد البناء الدرامي للاحداث بسلاسة رغم اختلاف موضوعة الحكايتين، الا ان المؤلف حافظ على الايقاع المتصاعد في كلاهما بطريقة فنية متوازنة ومنسجمة، كما حافظ على وقع الاحداث على المتلقي الذي لم يصبه الملل والنفور، وهذا امر مهم في نجاح الرواية.
أكرم الخائن لبلده، قتل في تفجير متعمد، لانه طمع بتحفة الرمال، الكتاب المدفون سرا في قبور احد العرافين في العراق والذي نبشه  بتوصية من ستيوارت، وفيه احداث ما سيكون من الزمان، بينما قتل الغوري على يد جيش العثماني سليم باشا الذي غزا بلده بتوصية من قادة محليين ليُنصبوا في ما بعد حكاما تحت وصاية عثمانية. 
 
البحث عن منقذ
في حكايتي قنصوة الغوري والقرد سمير، التي تكونت منهما الرواية، كان البحث عن منقذ، وتعرية الفساد، ونقد الواقع، وتسليط الضوء على النسيج الاجتماعي وما مر به من تصدعات اثرت فيه، وغيرها من الامور، اشارات بثها الكاتب في كل فصول روايته، حتى قضية اغتصاب أكرم لزوجتي أخيه قحطان الاولى والثانية، هو اشارة الى ان الاغتصاب قد خرج من حيزه الضيق الى العام، فاغتصاب البلد واستباحته وتشويه كل جميل فيه هو اغتصاب من نوع آخر، وهو في كل هذا يستدعي التاريخ الحديث والقديم لتدعيم سرده الجميل، وتكرار ثيم معينة ليؤكد وشائج الترابط بين الحكايتين، وكأنه يقول للقارى ان عليك ان تسير على هذا الطريق.
حكاية القرد سمير، قرد بوعي إنساني يعي ويفهم ما حوله، الذي أخرجوه من حديقة الحيوان ابان الاحتلال الاميركي خوفا على الحيوانات من السرقة والقتل، يذهب به الى بيت الاخوين قحطان واكرم، قحطان العصامي واكرم الذي باع نفسه للاحتلال، وبدأ ينفذ اجندات خارجية أشعلت الفتنة والقتل في العراقيين، بينما قحطان الأرمل والأب لبنت صغيرة يكافح للعيش بضنك، اختار المؤلف ان يجعل من هذا التوأم أنموذجا للتناقض بين الشرف وعدم الشرف، للرحمة والقسوة، للفساد والنزاهة، للانسانية وعدم الانسانية، للوطنية والخيانة، صورة سيئة انتهازية فاسدة لا تتوانى عن قتل الآخر وان كان من دمه ولحمه، فمثلما هو مستباح من قبل الآخر يستبيح الآخرين بذات القسوة، لينتهي الامر به مقتولا على يد من جنده.
 
شهود ونهايات 
كانت النهايات متناغمة بين الحكايتين، فالشهود على ما حدث وتناوبوا على سرد الحكايتين وهما كل من ابن زنبل والقرد سمير، انتهى بهما المطاف الى العودة للحياة الهانئة، فرجع سمير الى حديقة الحيوان التي حلم بها ليبدأ حياته من جديد، وتزوج ابن زنبل باهرة المثيرة ليعيش السعادة معها. بينما كان الكاتب وهو قريب أسرة أم قحطان شاهدا من نوع آخر، يكتب ويمزق مايكتب، شاهد صامت مهادن صديق الجميع، هو من كتب قصة سمير، لماذا سمير وليس الأسرة لان القرد سمير هو من رأى وروى لنا كل شيء، وحاول التنبيه، ولكن اي صوت لقرد يجعلك تفهم ان المؤامرة قد حيكت ونسجت حولك. أراد المؤلف ان يقول ان الغالبية الصامتة كسمير وقحطان، لا ينتبه لها، تدور في فلك خوفها وسطوة الجلادين.