الحضارة والبداوة في التبعيَّة الثقافيَّة

ثقافة 2021/06/11
...

 عادل الصويري
 
يرى المؤرخ (آرنولد توينبي) أن قصة تقبّل الله لقربان هابيل ورفضه قربان أخيه قابيل كانت إشارة إلهية للتفوق الأخلاقي البدوي على أخلاق الحضارة، وشرارة أولى للصراع بين المفهومين، وأنَّ البداوة، هي الأقرب أخلاقياً إلى الله، لأنه قبل من الراعي قربانه ورفض قربان أخيه الزارع.
بالقرب من هذه الإشارة يتوقف عالم الاجتماع العراقي الراحل الدكتور (علي الوردي) معتقداً أن وجهة نظر توينبي مقتبسة من رأي (ابن خلدون) رغم أن الأخير يفسر البداوة على انها جامعة للمحاسن والمساوئ في آن معاً، لكنّها أقرب إلى خصال الخير من الحضارة.
ويعتقد ابن خلدون أن ما يدعم رأي توينبي وغيره من الذين يقولون بقوله إن للحضارة أمرين أساسيين يجعلان - بحسب الدكتور الوردي-  أهلها أسفل أخلاقاً من البدو وهما الترف وظلم الحكام، فالترف يجعل من الإنسان سالكاً طريق الملذات والشهوات وسبل الفحش، بينما يؤدي الظلم إلى أزمة مجتمعية تتلخص بالمكر والكذب والنفاق والخداع.
هذه الرؤية الخلدونية لا تخلو في الحقيقة من صحة؛ لأن صفات الكرم والصدق والشجاعة نادرة التواجد في مجتمع الحضارة، وإن كانت تشكل بعداً أو جانباً واحداً من القيم البدوية، فهناك جانب آخر لا ينفصل عن الجانب الأول السابق، لكنه جانب ذو أبعاد سلبية يتمثل ببعض الأعراف والتقاليد التي تمثل ركائز أخلاقية لقيم البداوة متمثلة بالقوة والنهب والغزو والقتل.
ولعلنا نحصل على أمثلة كثيرة في ما لو أسقطنا هذا الصراع على واقعنا العراقي مستشهدين برؤية ابن خلدون نفسها أو غيرها من الرؤى التي خاضت وما زالت تخوض في هذا الصراع.
فمن الناحيتين التاريخية والجغرافية نجد أن العراق هو الحلقة الرابطة التي تتوسط صراع المفهومين، فكما هو معلوم أنَّ أول حضارة أنشئت في العراق وهي الحضارة البابلية العريقة أنتجت المعارف والعلوم.
وبالمقابل، نجد على الصعيد الجغرافي أن العراق يقع مباشرة على حافة صحراوية، ومن ثم فإن موقعه الجغرافي يجعله معبراً لدخول كل ما يتصل بالبداوة، هذا التناقض التاريخي/ الجغرافي خلق ازدواجية مجتمعية عراقية تصل الى الفرادة.
 
مشكلة التبعيَّة
ومن مظاهر الازدواجية التي تتصارع فيها قيمتا الحضارة والبداوة هي ظاهرة التبعية، إذ لم تستطع المسمّيات المختلفة للمشتغلين في حقول الثقافة أن تنفي ظاهرة التبعية الثقافية، والدفاع عن الجهة المتبوعة على نحو يقترب من التطرف.
ويقسم (طه عبد الرحمن) في كتابه (روح الحداثة) حالة القصور ممثلة بالإتباعية إلى ثلاث حالات:
1 - التبعية الاتباعية؛ وهي أن يسلم القاصر قياده عن طواعية لغيره ليفكر مكانه، إذ كان يجب أن يفكر هو بنفسه.
-2  التبعية الاستنساخية؛ وهي أن يختار القاصر بمحض إرادته أن ينقل طرائق ونتائج تفكير غيره وينزلها بصورتها الأصلية على واقعه وأفقه.
-3  التبعية الآلية، وهي أن ينساق القاصر، من حيث لا يشعر إلى تقليد غيره في مناهج تفكيره؛ لشدة تماهيه مع هذا الغير.
هذه الرؤية، هل تقودنا إلى تبعية حضارية وأخرى بدوية؟
في التاريخ القريب إجابة تبدو مقنعة عن هذا التساؤل الإشكالي.
في فترة ما يسمى بالجبهة الوطنية بجناحيها البعثي والماركسي كانت القيم والمبادئ مركونة على رف المرحلة وضروراتها، فالبعثيون يدركون أنهم سينقضّون في الوقت المناسب على صغار كارل ماركس آجلاً أو عاجلاً، بمنطق يقترب من الثأرية التي تغذيها البداوة، في حين كان رومانسيو اليسار غارقين في حضارتهم التي قادتهم إلى تبعية جعلتهم ينظّرون في أدبياتهم عن مستقبل الاشتراكية في فكر «رفيقهم» اللدود صدام حسين ظنا منهم أن هذا الرفيق سيحقق حلمهم المستورد من شمال أوروبا، قبل أن يحين الطلاق، وينقض أتباع القومية المشحونة بالعنصرية، على الأتباع الحضاريين في زمن ليس فيه توينبي ولا ابن خلدون كي يشرحوا هذه التداعيات.