جماليات البناء السردي في مجموعة «المسدس أول القتلى»

ثقافة 2021/06/13
...

  أحمد الشطري
 
لا شك أن التداخل بين الأجناس الأدبية حالة طبيعية تتجلى بوضوح في العديد من النصوص القديمة والحديثة، ويكاد لا يخلو نص شعري من روح السرد و تقنياته، باعتبار أن كل نص ينطوي على حكاية أو أكثر وهذا ما أشار له محمد غنيم بقوله: «إن كل نص شعري هو حكاية». وبدءا من المعلقات الى عصرنا الحديث بأشكاله الشعرية المتعددة، نجد أن هناك تمثلا واضحا لما أشرنا إليه. فالبناء السردي سواء بعناصره الأساسية أم بجزء منها، يظهر جليا في معظم النصوص الشعرية ان لم يكن كلها. ولا شك أن كل إنسان يحمل في نفسه كَمَّاً من الحكايات التي تمثل مسيرة حياته وتفاعلات مشاعره وتخيلاته، واذا كان السارد يفتح خزائن أفكاره ويخرج ما فيها من خلال النثر، فإن الشاعر يفتح تلك الخزائن بمفاتيح النص الشعري؛ ليخرج لنا ما تكتنزه، بكثافة الصورة وبلاغة التركيب وعمق المفردة، واذا ما قرأنا معلقة امرئ القيس على سبيل المثال سنجد أنها انطوت على أكثر من حكاية، تجسدت فيها كامل عناصر النص السردي، (من المبنى الحكائي وتنامي الحدث الى الشخصيات والاطار الزمكاني، الى الحوار الخ...). يقول في مقطع من المعلقة: 
(وبَــيْـضَـةِ خِــدْرٍ لاَ يُــرَامُ خِــبَـاؤُهَــا/ تَـمَـتَّـعْـتُ مِـنْ لَـهْـوٍ بِـهَـا غَـيْرَ مُعْجَلِ/ تَـجَـاوَزْتُ أحْـرَاسـاً إِلَـيْـهَـا وَمَـعْشَراً/ عَـلَّـي حِـرَاصـاً لَـوْ يُـسِـرُّوْنَ مَـقْـتَـلِي/ فَـجِـئْـتُ وَقَـدْ نَـضَّـتْ لِـنَـوْمٍ ثِـيَـابَـهَــا/ لَـدَى الـسِّـتْـرِ إلّا لِـبْـسَـةَ الــمُـتَـفَـضِّلِ/ فَـقَـالـتْ: يَـمِـيْـنَ اللهِ، مَـا لَـكَ حِـيْـلَةٌ/ وَمَـا إِنْ أَرَى عَـنْـكَ الـغَـوَايَـةَ تَـنْـجَلِي) الى آخر الأبيات.. ونرى أن هذا المقطع قد استوفى أغلب العناصر، بأسلوب جمالي مكثف، على أننا يجب أن نشير الى أن آليات السرد في الشعر تختلف عنها في السرد النثري أسلوبا وشكلا وتقنيا وخطابيا، وفقا لما تفرضه الضرورات الفنية.   
وفي قراءتنا لمجموعة (المسدس أول القتلى) للشاعر علي فرحان والصادرة عن دار أمل الجديدة 2019. نجد أن نصوص المجموعة قد استثمرت تقنيات السرد بشكل ملفت، بل إنني أرى أن عنوان المجموعة يبعث الى ذهن المتلقي شيفرة سردية أكثر مما هي شعرية، وهذا ما ارتسم بذهني في بدء تصفحي للمجموعة لولا أن ترشدني متعالية اخرى تشير الى تصنيف الكتاب.
فالجملة تنفتح على أفق سردي يوحي بتنامي صراع مؤطر بزمنية حُددت بكلمة (أول)، ومع إن الجملة تتألف من مبتدأ وخبر في ظاهرها، إلا انها ترسم في الذهن صورة لفعل وفاعل مضمرين، يتجليان من خلال وجود صورة لمفعول به حتمي هو (المسدس) المقتول (مجازيا). 
والمجموعة مؤلفة من تسعة نصوص اتسم معظمها بالطول، وقد شكل البناء السردي ظاهرة واضحة في تلك النصوص، سواء بإطاره الوصفي أم بشكله المونولوجي؛ ليرسم لنا الشاعر من خلاله طبيعة صراعاته وانفعالاته وتفاعلاته الحياتية.
ففي نص (طين العصافير) على سبيل المثال، يقول الشاعر: (كنا هناك نراوغ موتا/ ونزرع في القلب لون النساء البعيدات/ .../ ثم نصهل بالحب/ كنا نماطل في الموت ليغفو المسدس/ .../ ونغني نجونا... نجونا/ وها أنت تلصق أعمارنا في متحف الذكريات/ وتكتب كانوا...).
نلحظ هنا أن الشاعر قد استخدم المبنى الحكائي؛ ليعبر عن صراع مستمر مع الموت ممثلا بـ (المسدس) راسما خطا بيانيا لتنامي الحدث الذي ما يفتأ ان يؤول الى النهاية الصادمة بغلبة (الموت، المسدس). 
إن تقنية البناء السردي هنا قد منحت للنص عنصرا جماليا مضافا، وقيَّضت له فضاء اوسع لتعميق مدلولات الشيفرات الخطابية فيه.
 كما نلحظ ان الشاعر قد استخدم مفردة (الصهيل) كدلالة رمزية على الرغبة القوية بحياة تتسم بالحب والسلام من خلال ما تؤكده مفردة (نماطل) المبررة باللام السببية في  جملة (ليغفو المسدس).  
وفي نص آخر يقول: ( كان.. يا ما كانَ /» رجل جاء لساحة الوداع فتحول قبلة، وامرأةٌ رحلت بدون وداع فماتت). 
استخدم الشاعر هنا تناصا مع أسلوب الحكي في قصص (ألف ليلة وليلة) او قصص الموروث الشعبي؛ موظفا لما يعرف بالقصة القصيرة جدا او قصة الومضة؛ ليؤكد قصديته في الاستفادة من تقنيات السرد في نسيج نصوصه الشعرية.
كما شكل المونولوج سمة واضحة ايضا في نصوص الشاعر؛ ليعبر من خلاله عن عمق الصراعات النفسية والحياتية التي يعيشها اذ يكاد كل شيء يتسم بواقع سوداوي سواء على صعيد الذات او الوطن كما يبدو في هذا المقطع من قصيدة احتضار الشاعر: (وحدك الآن في الغابة الشائبة،/ تراقص ظلك فوق الجدار/ تداعبه بالحنين وتزجره 
بالحنين/ وتهجرك اللحظة الكاذبة/ اضمحلت خطاك على سلم لا يريد الوصول/ وماتت مليكة صهوتك الغاضبة/ .../ فاترك وداعك صارية/ وابتهل للإله الذي يتغلغل في روحك الراهبة). وكما نلحظ هنا ان الشاعر تكاد ان تهيمن عليه حالة من اليأس فيضطر للاستسلام المبرر للماورائيات التي يتحكم بها (الإله).
يبقى ان نشير الى ان نصوص هذه المجموعة قد اتسمت بعمق مدلولاتها الرمزية الجديرة بالدراسة والتحليل، وما يتجلى فيها من رصانة في لغتها وانسيابية في ايقاعها، وهذا ما اضفى عليها ثراء جماليا وحافزا اغرائيا، يعكس مقدرة الشاعر وتمكنه الابداعي.