أمي رغيف وجع

ثقافة 2021/06/13
...

 شكر حاجم الصالحي 
 
منذ بدء الخليقة كتبت النواميس الفناء والغياب الجسدي على بني البشر، فتلاحقت الفقدانات وصارت المراثي وسيلة التذكر والوفاء للغائبين. وكان العراقيون ورثة أمناء لتاريخ طويل من المواجع والانكسارات، فهم ورثة كربلاءات سومر والطفوف، ضحايا الحروب والحصارات والأوبئة المُزمنة، فلم يدخروا شيئاً للحياة سوى أحزانهم وتشبثهم بقيم الجمال والتسامح. 
ومن يتصفح أوراقهم العتيقة سيجد فيها ما هو ضاج بالألم الصارخ وبالوجع المُقيم، خاصة اذا ما كان الفقد مُستهدفاً الأقربين من البشر، ولهذا صاغ شعراؤهم أصدق النصوص في المناجاة والوقوف على الأطلال واقامة المآتم، ولنا في (نعي) المرأة وبكائياتها ما يثير الغّم والمرارة في نفوس السامعين، فقد كانت (نواعي) العراقية وما فيها من فائض الحزن والصدق ما يؤشر على حميمية العراقيين واعتزازهم بالراحلين منهم وعنهم. 
في نص “أمي رغيف خبز” يؤكد الشاعر حسين نهابة كل هذا الذي نقوله هنا، فهو يكتب فاجعة انسانية ببضعة سطور مُستذكراً أمه التي رحلت ذات نهار حالك، فأدمت القلب وزعزعت كيانه الآدمي وجعلته في صراع أزلي مع النفس: (تسألينني؟ /أنا لستُ بخير/ ولستُ في سلام مع نفسي/ ولا مع الآخرين/ أكاد لا أعرفني). 
من هنا يؤسس نهابة لواقعه المُلتبس الذي شيّده رحيل الأم التي منحته لون الحياة وجمالها، إذ يجيب عن سؤالها المفترض عن حاله بعد الغياب، ليكشف بصدقه عن ما آل إليه حاله بعدها، فهو ليس بخير، ولا في سلام النفس ومع الآخرين. 
فقدان الأم يشكل في حياة الفرد خسارة كبيرة لا تساويها حتى خسارة الأب، لأنها الحضن والملاذ الآمن، فقد تضلّ البوصلة اتجاهاتها وتضطرب الأيام وتختلّ الموازين حتى يكاد الشاعر يطلق صرخته الفاجعة (أكاد لا أعرفني) وتلك هي الحقيقة الكاشفة عن سر الوجود وديمومة الأمل، فكم هو ثقيل غياب الأم، وما تتركه من فراغ في حياة الأبناء: (عام آخر يطلّ/ وليس في الدار راحل غيري/ ورائحتك الوحيدة التي/ لم تخن ذاكرتي أبداً/ فيها شيء من الآلهة/ وبضعة من بخور الأولياء).
هنا يعود نهابة الى تفصيل مفردات المشهد القاسي بعد عام من رحيل الأم، إذ لا يراها كما في المخيلة أنها قد غابت روحياً بل كان الفناء جسدياً، ومكانها ما زال يشير الى أشياء موجوداتها الأثيرة، إذ ليس في الدار كما يرى حسين نهابة غيره في عِداد الراحلين، ومن خلال بخور الاولياء وشيء من الآلهة. أمه حاضرة في وعيه المستفز وحياته المرتبكة. 
ويمضي بسرد سوادات أيامه بعد الرحيل الجسدي لكنه يتلمس خطواتها ويستأثر بها رغم كل شيء بما في هذا الرحيل من قسوة وشجن وحنين، فهي تتسلل الى دفء منامه مع أصوات المؤذنين وضجيجهم ودعواتهم في صباحات الفجر الأولى. ويظل السؤال الدامي الذي لا جواب له (أين أنتِ الآن؟) من قوانين الفناء التي لا خلاص منها والتي أعيت جلجامش في البحث عن عشبة الخلود، حتى أيقن ان الموت قد كان ولم يزل نهاية المخلوقات، ولن يعيش الإنسان بعدها إلّا بما يتركه من ذرية صالحة وصدقة جارية وعلم يُنتفع به، وذلك هو الخلود الأبدي الذي يديم حضور البشر في ذاكرة الآخرين، وفي الختام يصرخ الشاعر مُستغيثاً: (خذلني الجميع، يا خبز العافية، فأين شريط الحلم؟ وأين اليد التي رسمتني في كتاب جريح /وغامت؟). 
فها هو يقرر حاله بعد أن خذله الجميع مستنجداً بخبز العافية، أمه الراحلة التي أطلق العنان لأسئلته التي لن تجد اجابات لها مهما طال انتظار نهابة لها ان (أمي رغيف وجع) نص محتشد بالوفاء والأمل والأسئلة الكبيرة التي كانت معبرة عن حياة مفعمة بالوجع والمراثي العراقية الصادقة.