التلاحم الفني بين المستهل والاختتام

ثقافة 2021/06/14
...

 د.سمير الخليل
 
تعد المجموعة القصصية القصيرة جداً (ثورة عقارب الساعة) الصادرة عن سندباد للنشر، أول محاولة جادة للقاص العراقي نهار حسب الله في مجال الومضة القصصية التي أصبحت الفن الرائج في الوقت الحالي، والفن الأكثر تداولاً وتناولاً من القارئ العصري الذي أصبح ملولاً يضجر بسرعة من التطويل والانتظار، وهذا ما تحتمه طبيعة العصر المتصف بالسرعة والحركية والتكثيف، لذلك برزت قصيدة الومضة والسونيتات في الشعر والقصة القصيرة جداً في السرد وسمّيتها (الومضة القصصية) تلك الفنون التي تمتاز بالقصر والتكثيف، فضلاً عن نقد الواقع المرير الذي تعيشه الذات بشكل أكثر تهشيماً وتهميشاً. لذلك نجد أن المجموعة القصصية (ثورة عقارب الساعة) لم تحاول أن تجسد ذلك الواقع المزري فحسب، ولكنها فوق ذلك عملت أن لا تهادن موقفها منه، وبكل وضوح، فقد تمكنت من رصد تناقضات الواقع العراقي القائم على الاضطهاد والقهر من خلال ما رسمته ومضاتها القصصية من عوالم سردية، فضلاً عما جسدته شخصيات تلك النصوص من أدوار.. وبذلك تحولت (ثورة عقارب الساعة) من كونها إبداعاً فنياً، إلى طاقة سياسية واجتماعية ذات بعدٍ آيديدلوجي له ارتهانات متعددة برزت في نصوص المجموعة ككل، مشكّلة بذلك ثورة عارمة على المألوف والسائد في الواقع العراقي المعيش. في نظرة فاحصة للواقع السردي الذي شكلته نصوص المجموعة، نجد ان الذات العراقية صارت فيه اكثر انسحاقا وتأزما جراء الظلم والقسوة والاضطهاد الذي تعيشه في مجتمعها العراقي.. وقد تمكن (نهار حسب الله) من تمثيل ذلك بشكل اكثر فنية وإبداعاً، عبر توظيفة للتقنيات السردية التي يمنحه اياها الفن السردي، عندما استثمر بنية البداية للنصوص القصصية في مجموعته، ليقدم للقارئ ما يمكن أن يقدمه من ايحاءات تمكنه من بناء تصور واضح عن الشخصية المحورية في النص، ولكن ما ان يصل القارئ الى نهاية النص حتى يفاجئه بمفارقة سردية يهد بها ما بناه آنفاً من تصور، فيكسر بذلك أفق التوقع لدى المتلقى، ليمنحه متعة أخرى أكثر استهواء له، وأقصد بها متعة المفاجأة أو الدهشة التي تعتمد تشييد أفق توقعات جديدة لدى القارئ (المتلقي) ورفده بمعلومات تشظي بها تأويلات النص، وتأويلات القراءة. قصة (سهرة الى جهنم) اعتمدت بداية تقوم على جمل اسمية سريعة ومتتالية، موظفة لتقديم تصور عن الشخصية المحورية في القصة. فالجمل الاسمية التي تضمنتها بنية الاستهلال عملت على خلق جو من الثبات والرتابة، فضلاً عن تقديم معلومات غزيرة ووصف واضح للشخصية، ولكن هذا الثبات لن يستمر الى نهاية النص، ففي خاتمته نجد ان المبنى السردي يتغير بشكل ملحوظ، وذلك لتوظيف الجمل الفعلية التي تساعد على خلق ديناميكية كبيرة وحركية واضحة كفيلة بتحطيم الثبات المعهود وتغيير مجرى السرد العام.
إن هذا التطور والتغير العام للمبنى السردي، كان مصاحباً لتطور المتن الحكائي  للاحداث السردية، وتغيير بوصلتها نحو وجهة مغايرة تماماً وبدرجة (180) وليس ذلك فحسب، بل جعل الشخصية السردية أكثر نمواً وحركية مما كانت عليه، مما ساعد على منح النص السردي القصير جداً جمالية اكثر، وفنية إبداعية عالية.
أما في (رحلة الى الباب الشرقي) فقد كانت ذات بداية مغايرة نوعاً ما، إذ اعتمدت على جملة فعلية واحدة، لكنها جملة خلقت تكرارية ملحوظة قائمة على الثبات أيضاً، ثبات يستمد من رتابة عيش الشخصية المحورية في القصة، وهو الموظف في الدائرة الكائنة في الباب الشرقي.
هذا الثبات وتلك الرتابة لا تستمران الى النهاية أيضاً، بل تصطدم بالواقع العنيف والمأساوي للشخصية، عندما يحطم ذلك الهدوء انفجاراً ارهابياً استهدف احدى دوريات الشرطة العراقية.. فيتحول المجرى السردي بكل ثقله الى أم الشرطي سلام المتفحِّم في ذلك الانفجار، والتي تجلس في السيارة مع الشخصية المحورية. بل حتى اسم (سلام) له دلالته التي تحيل إلى رغبة الأم والمجتمع العراقي بالسلام لكنه تفجّر بعد أن تحول الواقع إلى فوضى وانتقام وانفجارات لا سلام فيه.
استحثت هذه النهاية إطباقاً على الألم والحزن اللذين يلفان المجتمع العراقي، الذي شكله نص القصة لتخلق بذلك جواً من السوداوية واليأس، فضلاً عن رفدها توقعات القارئ بتشظيات جديدة تجبره على التأمل بعد تمام قراءة النص.. من أجل ذلك يمكن القول إن مثل هذه النهايات تفاجئ المتلقي في كسرها لأفق توقعاته، وذلك بالانحراف عن خطية سير السياق النصي، إذ إنها ما تلبث أن تداهمه بمعانٍ جديدة، وأساليب غير مألوفة في الأداء.. وبذلك تساعد على إبقاء المتلقي مشاركاً ومتجاوباً مع النص، وتبعده عن الرتابة، وتلفت نظره إلى الأحداث المتناقضة، والمواقف المتضادة والشخصيات النامية والبليدة. أما من ناحية الطول فكان هناك قصص قصيرة في نصوص المجموعة يتجاوز الصفحة الواحدة أو حتى صفحتين كما في (يوسف: كان هنا) و(ثورة عقارب الساعة) و(رحل: إلى الباب الشرقي).. وغيرها. إن هذه النصوص الومضية ذوات الدقيقة الواحدة كما يسميها (نهار حسب الله) كانت أشبه بالعتبة التي تستحث ذهن القارئ على إثارة الانتباه لها، لكنها تسخر آخر جملة في النص لتشفي دلالات النص، وترفد أفق التوقعات بتعدد التأويلات.. كما أن الجزء الآخر من المجموعة والذي تضمن نصوصاً قصصية تحت مسمى (قصص جذرية ساخرة) فقد جاءت على لون سردي يعتمد السخرية الممزوجة بالألم واليأس من الواقع السوداوي الأليم، فقد حاول المؤلف إلقاء الضوء على تناقضات واقعه المرير، مشخصاً العطب فيه، ومحدداً منغصاته بشكل دقيق فقصة (مقترحات) ترسم واقعاً مؤلماً لمجتمع يعيش مضطهداً بسبب مقترحات كبار رجال الدولة فيه التي لا تأتي إلّا بالأسوأ لذلك المجتمع ((طلب السيد (مراوغ راقي) رئيس الجلسة من السادة الحضور تقديم مقترحاتهم (...) تقدم السيد (مزور) وزير العلم والمعرفة بمقترحه الأول والذي ينص على إلغاء سنوات الرسوب في كل المراحل الدراسية وذلك للقضاء على ظاهرة تزوير الشهادات وحتى تتمكن البلاد من تخريج أطباء ومهندسين (...) كما اقترح السيد (دولار) وزير الأموال والمعيشات تقليص مرتبات موظفي الدولة بنسبة 90% وإلغاء الرواتب التقاعدية)) (ص91). 
من خلال النص، تتضح مدى السخرية من الواقع الذي باتت فيه الذات أكثر انسحاقاً جراء الظلم والتهميش، ولا إنسانية الأحكام التي تنظم المجتمع ويظهر النص بؤس الطبقة السياسية المتنفذة وأساليب ابتزازها ومصالحها الخاصة بعيداً عن طموحات الناس ورغباتهم في العيش الكريم. وعلى الرغم من اليأس والألم والحزن التي أفصحت عنها نصوص المجموعة غير أن الأمل بالخلاص من كل ذلك قد يبدو خافتاً، غير أنّه يبقى أملاً ترنو الأنظار إلى تحقيقه، وهو ما أوحت به قصة (خراب).
بناءً على ما تقدم نجد أن (نهار حسب الله) حاول الإفصاح عن المكبوت في دواخل الذات العراقية التي تعيش سنوات الدمار والتخريب والاضطهاد والظلم، بعد أن كانت قد عاشت سنوات القحط والحرمان، فثورة عقارب الساعة، هي الثورة الكامنة في ذلك الواقع المرير الذي سيتغير حتماً بثورة الشباب، وهو استشراف للمستقبل. ومن الجدير بالذكر، أن النصوص القصصية لمجموعة (ثورة عقارب الساعة) لم تكن على نمط واحد، ولا شكل محدد، بل تباينت تلك النصوص من حيث الطول في المبنى الحكائي، وليس ذلك فحسب، بلا من حيث التقنيات الموظفة، وعدد الشخصيات المتحركة أيضاً وهي مجموعة تستحق الوقفة والتأمل لما فيها من تنوع تقني وإجناسي وقدرة إبداعية لافتة.