سياسيون يتضايقون من الاغاني الحزينة في الصباح

الصفحة الاخيرة 2021/06/15
...

 عادل العرداوي 
 
 مما يروى عن (الباشا) نوري السعيد السياسي العراقي المخضرم، رئيس الوزراء في العهد الملكي، انه كان محباً وعاشقاً للغناء العراقي عموماً، و(المقام) خصوصاً، حتى انه كان يزور(دار الاذاعة العراقية) في الصالحية بين الحين والآخر، ليلتقي بالعاملين فيها من المذيعين والموسيقيين والمطربين، مبدياً لهم ملاحظاته وانتقاداته، للبرامج والاغاني والفقرات التي كانت
تبثها. 
ففي صبيحة احد الايام، كان الباشا يسكن في احدى دور(السكك) المجاورة لمبنى الاذاعة، وعندما كان يتناول فطوره الصباحي، قبيل التحاقه بدوام وظيفته الرسمية في مقر مجلس الوزراء في البناية المجاورة لبناية (القشلة) كان يستمع لبرامج الاذاعة الصباحية، عندها انتبه الى ما اعلنه مذيع نشرة الاخبار الصباحية بعد انتهائه منها، وكان في وقتها المذيع المرحوم (موحان طاغي)، مباشرة عن بث اغنية الموسيقار المصري محمد عبد الوهاب (جبل التوباد حياك الحيا..) وما ان انتبه السعيد الى المقطع الاول من تلك الاغنية، شعر انها اغنية حزينة المضامين ولا يتلاءم بثها مع وقت الصباح مطلقاً، عندها استشاط الباشا غضباً، وتوجه فورا الى الهاتف الارضي، متصلاً بمدير الاذاعة، وظهر له ان المدير لم يلتحق بعد بدوامه فطلب أن يكلمه المذيع الموجود في غرفة البث آنذاك الذي اذاع فقرة تقديم اغنية عبد الوهاب المذكورة. وفعلاً جاء المذيع موحان ليكلم نوري السعيد على الهاتف، وبعد السلام وتعرفه على اسم وهوية المذيع، عاتبه على عدم حسن الاختيار، لبث مثل هذه الاغنية في الصباح الباكر، وفي مطلع يوم جديد، اذ ان بثها لا يصلح في هذا الوقت، لانها تعطي لمن يسمعها انطباعاً حزيناً وجواً
كئيباً. 
وهكذا راح الباشا يواصل كلامه ونصائحه للمذيع وكان من بين ما قاله له: (وين ذوقكم انتم كلكم اللي تشتغلون بالاذاعة، الناس بعدهم على ريقهم، وانتو اتدگون جبل التوباد!) ويستمر ايضا: (اتريدون اتبچوهم من الصباحيات؟ يعني ماكو اغنية بالدنيا فيها شوية فرحة واستبشار حتى اتسمعوهم هاي الاغنية)، ويواصل نوري السعيد كلامه للمذيع  (يا ولدي موحان، خلونا نسمع شي ايفرحنا، واغاني عراقية مثل: على شواطي دجلة مر .. للناصرية للناصرية.. تعطش واشربك ماي بچفوف اديه.. وبستات عراقية اتونس الناس وتتغنى بوطنهم، بانهارهم، بمدنهم، بمسراتهم). 
في الطرف الاخر من الهاتف كان المذيع (موحان) يردد (امرك سعادة الباشا معلوم سيدي.. إن شاء الله هاي بعد متتكرر)، وبما ان رئيس الوزراء كان يتناول فطوره الصباحي في بيته اثناء اتصاله بالاذاعة، انتبه قبل أن يغلق سماعة الهاتف حيث بادر بسؤال المذيع: (ابني موحان، انتم اتريگتوا لو لا؟ ومنو وياك من المذيعين حالياً ؟) فرد عليه المذيع : (لا باشا ما متريگيين انا، وزميلي المذيع عبد الحميد الدروبي) ورد الباشا عليه: (طيب ابني موحان تعالوا بالعجل الى بيتي انت وصاحبك الدروبي، لتناول الريوگ اوياي!).
وهكذا فقد توجه المذيعان موحان طاغي وعبد الحميد الدروبي الى بيت نوري السعيد المجاور لبناية الاذاعة مشياً على الاقدام، وبعد وصولهما رحب بهما الباشا ترحيباً حاراً، وجلسا معه مشاركينه تناول (صينية) الفطور المليئة بالبيض، والجبن، والقيمر، والعسل، والخبز الحار والشاي (المهيل) والباشا منهمك معهما يحدثهما عن شؤون البلاد، ومستقبلها، ودور الجيل الجديد في تكوينها. 
وخرج المذيعان من بيت رئيس الوزراء العراقي آنذاك، متعلمين منه درساً لا ينسى، سارت عليه اذاعة بغداد، منذ ذلك الحين حتى الوقت الحاضر، يتمثل في عدم بث الاغاني الحزينة في فترة البث الصباحي اليومي، وهو فعلاً درس بليغ للعاملين في الوسطين الاذاعي
والتلفزيوني.