الأساطير وأفق التلقي الضيق

ثقافة 2021/06/15
...

  د. نصيرجابر 
 
ورثت البشرية كما هائلا من الأساطير المتنوعة التي  ظهرت في فترات تاريخية موغلة في القدم وفي أماكن وبلدان متفرقة، وضمن ثقافات وبيئات وحضارات (سادت) ثمّ (بادت)، ومن المنطقي والموضوعي جدا أن نقول إنّ التنقيبات الآثارية الجادة بجهودها الحثيثة يمكن أن تضيف في القابل من السنوات أساطير جديدة لم تكتشف بعد، إذ ماتزال الكثير من مناطق العالم الغنية محتفظة بموروثها وكنوزها، فلا يمكن غلق هذا الباب أبدا فربما تختفي الآن تحت الغرين أو الرمال أو في الكهوف النائية رقم أو برديات أو مخطوطات تعدنا بالكثير من المفاجآت التي قد تردم هوّة معرفية غامضة أو تعيد صياغة أحداث قديمة برؤيا جديدة صادمة أو تجسّر ما بين ضفاف معرفية متباعدة.
وهذه الأساطير مكتوبة بلغات قديمة مندثرة ميتة مغلقة؛ لذا تحتاج  ترجمتها إلى اللغات الحديثة الحيّة إلى جهد علمي شاق جدا لا يمكن أن ينهض به إلّا من هو مختص وعالم وعارف بارع بكلّ خفايا هذه اللغات ودلالاتها وتطورها الزمني، فضلا عن العلم بالمعارف المجايلة لفترة انتاج هذه المدونات الغنية الخصبة كما يجب أن ننتبه إلى أن هذه الأساطير متداخلة جدا في ما بينها لأسباب كثيرة منها طبيعة الفكر الذي كان يسود العالم القديم ومستوى انتاج الأفكار لحظتئذ وطبيعة حركية الزمن خلاله،  فضلا عن الهجرات المستمرة والحروب والأوبئة التي تغيّر من جغرافية السكان دائما، ومن ثمّ تغير من جغرافية الأسطورة وكذلك ارتباطها الوثيق بعقائد الناس الظاهرة منها والباطنية وظهورها في سرديات أخرى من جنس حكائي مختلف اتكأ عليها  وأعاد انتاجها برؤى مختلفة؛ لذا من المتوقع جدا أن نلمح صدى متداخلا وتزاورا ونسخا كثيرا حينما نتوغل في
 تتبعها.  
كما يجب أن ننتبه أيضا إلى لعبة الإسقاطات التاريخية الخطرة التي مارستها جهات وفئات وجماعات عرقية أو مذهبية  بقصد أو من دون قصد على هذه الأساطير التي من خلالها روجت لشخصيات معينة داخل حيز الأسطورة وربطته بشخص آخر خارجها لأسباب  كثيرة لامجال لذكرها  الآن.
والأسطورة قبل هذا كلّه نص أدبي رفيع هو خلاصة وعي عصره كتب لغرض معيّن وهدف محدّد، ورافقت ظهوره ظروف لا يمكن أن نحدّدها الآن بدقّة.. نعم ربما يمكن أن نعيد بناء بعض ملامحها ولكن من الصعوبة بمكان أن نرمّم  الفضاء الزمكاني كله لتتكشف لدينا الصورة كاملة؛ لذا من المهم جدا أن تخضع  دراسة الأساطير إلى مناهج علمية رصينة تقيّد الباحث بأطرها الصارمة وتجعل من دراسة الأسطورة مغامرة علمية مأمونة العواقب حتى لا يدخل هذا المضمار الصعب من هو ليس بأهل لذلك وهذا لا يعني اطلاقا قمع العقول أو تخويفها من الاقتراب من هذه المراتع  المعرفية المدهشة بل تحذيرها أن هذه الأساطير تشبه الجسد الإنساني المقدس لا يمكن اجراء عملية جراحية له إلّا من قبل جراح مختص. 
أما الهواة والملفقون والسذّج والبسطاء فلا مكان لهم أبدا في دراستها لأنهم بكل بساطة ليسوا أهلا  للاقتراب من ذلك النص العالي الرفيع وستكون دراساتهم مصداقا لقول الأعشى: (كَناطِح صَخرَةً يَوْماً ليوُهِنَها     
فَلَمْ يَضِرّْها وأوهى قرنه الوعلُ).
وقد قرأت وسمعت كثيرا من أمثال هذا (النطاح) الساذج الذي يفسّر ويأوّل أحداث هذه النصوص برمزيتها العالية على وفق رؤيا راهنة ضيقة مضحكة تهوى به إلى قاع السطحية والابتذال الفكري.
ولعل أكثر الشخصيات التي يُعتسفُ دورها وتنمّطُ وتقولبُ هي الشخصيات النسوية سواء الرئيسة منها أو الثانوية التي تحفل بها هذه الأساطير، إذ يجري جرها بقوة إلى حيز آخر يتناغم مع هوى الباحث الذي لا يتقبل  (سلوك) البطلة الأسطورية مثلا لأنه بالضد مما يؤمن به فيحاول أن يتذرّع  بتسويغات تافهة حتى يناغم الحدث القديم المبني في أزمنة سحيقة مع أفقه الضيق غير ملتفت أصلا إلى أن الخطاب المتعالي لهذه النصوص لا يمكن  حصره أبدا بلحظة تاريخية واحدة؛ لأنها نصوص تراكمية محاورة عبرت الأزل وستظل دائما محتفظة بخطاب جديد كلما وجدت تلقياً وتفهماً علمياً
 منصفاً.