كتاب الراحل هشام جعيط .. الكوفة.. نشأة المدينة العربيَّة الإسلاميَّة

ثقافة 2021/06/15
...

     صلاح الموسوي
 
في تعليق لأحد المهتمين بفكر المؤرخ التونسي هشام  جعيط، يصف كتابه (نشأة المدينة العربية الإسلامية - الكوفة) بالفرادة من حيث المبادرة لدراسة أول الحواضر العربية التي انشأها العرب المسلمون بعد تحقيقهم للانتصارات العسكرية خارج الجزيرة العربية القديمة، فعبر الوثيقة والأثر العمراني حاجج جعيط المستشرقين، ورد على طعونهم بالحضارة الاسلامية ومحاولاتهم لنفي صفة التمدن عن المسيرة الطويلة لهذه الحضارة. 
فمدينة الكوفة منذ الأيام الأولى للتأسيس باتت أنموذجا لما عرف بـ (الأمصار)، والأمصار هي ذلك الجيل الأول من التجمعات العربية التي قامت خارج بلاد العرب، فقامت بدور المراكز العسكرية والسكنية الكثيفة، وكانت قطبا للتعريب في البلاد التي أقيمت بها، ولأسلمة العرب قبل غيرهم، وقد تكون القصة الأهم في علاقة العرب المسلمين مع بلاد الرافدين وتطورها الى الفتح الكامل وإسقاط الأمبراطورية الفارسية المهيمنة على العراق آنذاك، تتعلق بوجود عربي قديم متمحور بالدرجة الأساس حول دولة المناذرة، وقد اتصف هذا الوجود بطابع المدنية خصوصا تأثره بنمط حياة الدولة الفارسية، وجاء اهتمام عرب الجزيرة المسلمين الجاد بالعراق بعد وصول طلائع قواتهم الى حدود العراق عند مطاردتهم للقبائل المرتدة عن الاسلام، فضلا عن تشجيع عرب العراق من امثال المثنى بن حارثة الشيباني المسلمين لفتح العراق وطرد الفرس، واستراتيجية الخليفة عمر بن الخطاب في ما بعد بإبعاد القبائل المرتدة وتشجيعها على الهجرة الجماعية الى العراق خصوصا مع الاستعداد لمعركة القادسية؛ مما جعل الميزان العددي يميل لصالح البداوة على حساب القبائل العربية الأكثر تمدنا في العراق كبجيلة وعجل وبني شيبان وغيرهم.
على ضوء موضوعة  تأسيس المدن في العراق بعد الفتح الاسلامي، يسوق الكاتب مقارنة بين العروبة التي تمثلت بالهجرة والفتح في بلاد الرافدين و (الهيلينية) التي عبّرت عن الفتح اليوناني للأقاليم البعيدة عن اثينا ومقدونيا خصوصا في الشرق، فخلافا للعرب والفرس المجاورين مباشرة للشرق الواقع بين الشام وبلاد الرافدين، فإن السلوقيين وهم المتعلقون عاطفيا بالهيلينية لم يعتمدوا على الشعب اليوناني ككل للإمساك بزمام امبراطوريتهم الشاسعة، ربما لأنهم لم يجدوا اليونان بجوارهم او مقدونية، ولم يعتمدوا إلا على مجموعات مهاجرة صغرى، فقد لجؤوا الى انشاء المدن ( poleis)، إذ اقروا عناصر يونانية مقدونية كانوا يستندون اليها وجزرا للهيلينية تدعم هيمنتهم، وهكذا فإن مابذلوه من جهود جبارة في انشاء المدن يدخل ضمن خطة سياسية مهيأة اكثر مما يتعلق الأمر بميل الى التمصير يجب ترضيته او الايفاء باستحقاقه العمراني، او حتى بادرات لمشروع حضاري كما يحب ان  يصوره مداحو الهيلينية!.
 وللمقارنة مع الوجود العربي في العراق، يظهر لنا شكلان للتمدن والهجرة، فالهجرة العربية هي التي اوجدت الفتح، ولم تكن مجرد نتيجة له، وبسبب قرب العرب الفاتحين من مخزونهم البشري، فإن استيطانهم كان يتصف بكثرة العدد وقوة التجمع، ولم يكن مشتتا مبعثرا، ومن ثم انفصلت الأمة القائمة في العراق انفصالا صريحا عن الأهالي المحيطين بها، وآل الأمر الى تعايش غريب جدا بين المدينة والقبيلة التي كانت نابضة بالحياة عند العرب بينما لم تكن سوى أثر عند اليونان، لماذا وفق الاسلام حين فشلت الهيلينية؟، لأنه جمع بين المبدأ الديني الذي لايمحى وبين الهوية الثقافية المتينة، والتنظيم العسكري الجيد، ولأنه حافظ على هذه العناصر في أمصاره القليلة، وخلافا لذلك، فقد كان مستعدا لتقبل سلسلة النماذج الحضارية المودعة في الشرق بشكل انتقائي، بما فيها الهيلينية، وتم العمل بهذه الانتقائية في تخطيط الكوفة، لكن الاسلام وجد أخيرا الأسلوب اللائق به بعد قرن من ذلك.
 وعن الكوفة الأولى (17-24هـ /638-644) هل كانت مجرد معسكر ام مدينة حقيقية. ينطلق المؤرخ جعيط من نص للمستشرق الشهير لويس ماسينون، استعرض فيه مراحل التمصير معرفا إياه بأنه (الانتقال من مرحلة تجمع المعسكرات الى مرحلة التوزيع بين حارات في المدن)، ثم اضاف من المعلوم ان الكوفة بعد سنة 17 هـ، لم تكن خلال السنوات الخمس الأولى من انشائها، سوى مجرد تجمع من خصاص القصب، يقام بين حملتين بصورة مؤقتة (استمرت النساء في مصاحبة الرجال في الحرب). واثناء ولاية المغيرة (التي امتدت من 22هـ الى 24 هـ) ظهرت مواقع الخيام المصففة بصورة دائمة، في شكل حيطان صغيرة من لبن، وبداية من سنة 50 هـ وقع أخيرا الشروع في بناء دور حقيقية من آجر، وكان ذلك في ولاية زياد بن أبيه.
 يستطرد هشام جعيط عبر جهده العلمي الموسّع والدقيق في سبر غور العلاقة بين تأسيس مدينة الكوفة وما آلت اليه من تخطيط وتطور عمراني عبر الزمن وتأثيرات التاريخين الشرقي والغربي المديدين خصوصا بابل وبلاد فارس وتأثيرات الهيلينية وروما وبيزنطة، فضلا عن ما حمله العرب المهاجرون الى الكوفة من صور لعمران المدن اليمنية ومدن الحجاز كمكة والمدينة والطائف، واثر كل ذلك في بنية احياء المدينة السكانية والأسواق والمساجد ودار الإمارة، فضلا عن اشتمال الكتاب الذي خلا من المقدمة والخاتمة على ملاحق وجداول وقوائم بالقبائل العربية التي سكنت الكوفة بعد معركة القادسية، مساجد الكوفة، فضلا عن رسوم وخرائط  تتعلق بالتاريخين الكلاسيكين  للعراق وللكوفة.