هل تمكَّنت الثقافة العراقيَّة من صناعة التعايش السلمي

ثقافة 2021/06/16
...

 البصرة: صفاء ذياب
لم يبدأ البحث عن مفهوم التعايش السلمي في العراق ابتداءً من سقوط النظام السابق فحسب، بل كانت المناداة بهذا التعايش منذ سبعينيات القرن الماضي، لأسباب عدة، منها أن قيادات المدن الإدارية والأمنية والعسكرية كانت من مدن أخرى تختلف في بنيتها العقائدية والفكرية، في سبيل السيطرة الكاملة على هذه المدن، وهو ما أدى إلى انقسام سكانها إلى حشود مع هذه السلطة أم لا، فأنتج علاقات متشنجة في المدينة الواحدة، حتى وإن كانت متآلفة في الدين والأفكار التي يحملها سكانها.غير أن العام 2003 كان فاصلا في خروج مفهوم التعايش السلمي للسطح بشكل واضح، على خلفية صراعات كثيرة هددت بحرب أهلية حقيقية كانت أعوام 2005 و2006 و2007 خير شاهد على الضحايا التي كانت ضحية فقدان هذا التعايش.لكننا نتساءل بعد هذه السنوات، وما زال هذا المفهوم رجراجاً لدى الكثير ولم يعطِ ثماره حتى الآن، ما الذي قدمته الثقافة العراقية لترسيخه، مادياً ومعنوياً؟.
 
سلم مجتمعي
الشاعر خضر خميس يرى أن للثقافة تماساً تاماً بالبيئة والمجتمع من خلال ما تقدمه القصيدة والقصة والرواية متفاعلة بما تجسده الصورة سواء كانت سرداً أو شعراً. هذا من جانب أما الجوانب الأخرى فمن خلال تواجد المثقفين مع فئات الشعب الأخرى في ساحات التظاهر ونصب الخيم والاعتصامات والمطالبة بالحقوق.. وهذا ما يسعى المثقف العراقي لتقديمه لمجتمعه الذي يرى أنه أنهك سياسياً، وغيّر من نظرته وطريقته في الحياة بسبب الانقسامات الاجتماعية التي فرضتها عليه
السياسة.
ومن ثم، يوضح خميس، أن المثقف العراقي يعيش في مأزق حقيقي، فهو من جهة معني بالمجتمع وتآلفه، وكيفية الحفاظ على مكوّناته متعايشة مع بعضها، وبين الوقوف أمام السياسات الخاطئة التي تمارسها الأحزاب الحاكمة. وبعيداً عن كلامنا في السياسة، وهو ما نضطر له بسبب الوضع الراهن، غير أننا نعيش في حالة ازدواجية دائمة، بسبب المعايير التي اختلفت بين أفراد المجتمع العراقي، فهذا الإنسان الذي كان لا يرى في الآخر إلا أخاً أو صديقاً أو قريباً، أصبح في الكثير من الأحيان ينظر إليه على أنه يسعى لأخذ حقه. هذه الإشكالية تدفعنا لأن نعي بأننا نعيش في مجتمع مرتبط، علينا من أجل إنهاء هذا الارتباك أن نفكر بعراقيتنا قبل أي مصطلح أو مفهوم آخر، فهي التي تدفعنا لإعادة السلم المجتمعي من جهة، والعمل على التعايش السلمي، بشكل حقيقي، من جهة أخرى.
 
حراك مبتور
ويشير الشاعر ناجح ناجي إلى أن الثقافة العراقية محمولة على ظهر التاريخ منذ ولادة النهرين في العراق، بمدونات تشير إلى تأسيس وتقنين العلاقات الحضرية بين الناس وفعالياتهم المجتمعية عموماً، مما ترك أثراً في تطوّر التعايش المجتمعي. وبمرور الحقب التاريخية عملت المطامع الخارجية على تفكيك تلك الأواصر المجتمعية بتدمير بنية المجتمع الحضري وتغييب دور المثقف عن تنمية الوعي الاجتماعي من خلال قمع الوعي وتهميش المؤسسات والحركات الثقافية والوطنية بخلق صراعات إثنية يتفشى بنتائجها الجهل، والأمية والطائفية، وضمان مصالح تلك القوى الخارجية. ومن هنا يدرك المثقف والمؤسسات الثقافية- بحسب ناجي- معنى أن يأخذ الدور الريادي في تبنّي المشروع الوطني والتصدّي بحزم الى خلق صلاته المجتمعية من خلال المؤسّسات الثقافية الوطنية وأن يطوّر أساليب تعزيز حضوره الاجتماعي في الفعاليات الجمعية والفردية التي تعمل على خلق الوعي الاتصالي بنبذ المفاهيم الطوطمية والطائفية الدخيلة على ثقافة المجتمع الاصيلة.
ويبين ناجي أن للأدباء العراقيين عموماً وبعض الصحف والمحافل الثقافية، دوراً وطنياً بارزاً في هذا التصدي، إلا أن هذا الحراك يدعونا إلى عقد مؤتمرات ثقافية وشعبية تعمل على إحياء الحس الوطني الشعبي وتؤسس لقيم ثقافية عراقية تقود الحياة الى مسارها الأمثل، بهذا وغيره من الفعاليات الوطنية تستعيد ثقافتنا العراقية دورها الريادي في تشكيل بنية تتمنّع إن لم تكن منيعة على المحاولات التدميرية لعمقها الحضاري والتعايش المجتمعي.
 
المثقف الهادي
ويعتقد الشاعر ذياب شاهين أنَّ الثقافة العراقية بروافدها من (فكر، أدب، فن، عمارة) ليست عاجزة عن تقديم ما يعزّز التعايش المجتمعي، وما قدّمته من نتاجات رصينة وكثيرة قد مثلت مرجعية جامعة لأبناء المجتمع العراقي ليتعايشوا بسلام، وحينما كنت أعيش خارج العراق كان قلبي يتقطع وأنا أرى شوارع بغداد ممتلئة بجثث العراقيين، ولم يدرْ بخلدي مدى هشاشة المجتمع الذي تم اختراقه بسهولة من قبل القوى السياسية المتناحرة، ومن هنا تبرز أهمية الثقافة بوصفها الترياق السحري لشفاء المجتمع من عصبياته المتعددة، ومن ثم فما يقدمه المثقف العراقي سيكون مهما بوصفه نتاجاً وطنياً خالصاً وليس لفئة بعينها، فحينما نجد ثوّار تشرين يتجمعون عند نصب الحريّة لجواد سليم، أو يردّدون قصائد الجواهري والسياب أو يهزجون بالأغاني الوطنية سندرك قوّة المنجز الثقافي، كما أنَّ الثقافة ومهرجاناتها لو استثمرت بطريقة صحيحة ستكون لها القدرة على تمتين الروابط المجتمعية وإلغاء المناطقية الفجّة، إن المثقف العراقي في نتاجاته مدعو ليكون الهادي لإعلاء الوطنية العراقية لأنها الهوية الوحيدة الجامعة والمانعة.
 
مصابون بالشيزوفرينيا
وبدوره، يرى الموسيقي جمال عبد العزيز السماوي أن للثقافة العراقية جذوراً في مجتمعنا العراقي منذ بداية تأسيس الدولة العراقية، فقد كانت هناك نهضة وحركة ثقافية تشمل الأدب بكل أنواعه، ومن ثمَّ المسرح، وأخيراً الموسيقى، إذ بدأت النهضة بموسيقى عراقية متطورة ولا سيّما في بغداد التي كانت في بداياتها مختصرة على المقام العراقي والتراتيل الدينية، فضلاً عن الأطوار الغنائية البغدادية التي كانت تؤسس لروح مدنية جديدة بعد النكبات التي عاشها المجتمع العراقي لقرون طويلة، ابتداءً من سقوط بغداد على يد المغول، مروراً بالاحتلالات العديدة، وصولا إلى الاحتلال العثماني والبريطاني في ما بعد، فقد لعبت الموسيقى دورها في التأثير على المجتمع، غير أنَّ ظروف البلد السياسية واضطهاد بعض الأحزاب الوطنية التي تأسست آنذاك لمناهضة الفاشية والصهيونية أثّر بشكل واضح على مفهوم التعايش، فضلا عن دور المثقف البغدادي وبعض المحافظات كالبصرة والموصل، فللمثقف دور معروف في الانتفاضات والتظاهرات المدافعة عن حقوق الناس، وصولا إلى دوره بعد قيام ثورة تموز عام 1958، فكان له اليد باختيار نخبة عراقية تقود البلد. غير أن انتكاسة 8 شباط غيرت من طرفي المعادلة، فوضعت هذا المثقف في السجون والمعتقلات، لتتغير المعادلة مرّة أخرى، على الرغم من محاولة البعض تأسيس نقابات وجمعيات رسمية كبيرة، إلا أن هذه الانتكاسات ولدت بعض التناقضات عند المثقف، لا سيّما باعترافاته في أثناء التعذيب أيام الاعتقالات، والتقارير الكيدية التي كانت تكتب ضده في فترة حكم ثورة 1968، ومن ثمَّ تحوّل بعض المثقفين إلى مخبرين، حتى دخل الكثير منهم إلى الحزب الحاكم ليحصل على مبتغاه المادي والمناصب العديدة جرّاء مدحه النظام والسلطة. على الجانب الآخر هناك مثقفون حاولوا الحفاظ على كيانهم، فهربوا خارج العراق، وبعد سقوط النظام البعثي بعد العام 2003 عاد الكثير منهم ليسهموا في الحفاظ على البنية المجتمعية العراقية، والتماسك الاجتماعي الذي كان ظاهرة بارزة الملامح، وكما ارتمى مثقفون سابقاً في أحضان حزب البعث، ارتمى آخرون في أحضان الأحزاب الجديدة، لينعموا بخيراتها، وبتصرفاتهم زادوا من الانشقاق المجتمعي، ولم يسهموا ولو بكلمة واحدة في بناء التعايش السلمي بين طوائف المجتمع  العراقي.