السوق الكبير.. شارع الشيخ صالح الكواز

ثقافة 2021/06/17
...

 جبّار الكواز
 على هذا الشارع الذي مسح اسمه الرجال الجوف نكاية بالشعراء.. ويوم كان ترابياً تعلمت المشي عليه وفككت الحرف طفلا في بيت الشيخ (نجم) وفيه كنت طفلا تؤسرني حكايات الجن ومراسيم عاشوراء ومقالب المغفلين، وشابا كنت أقتنص حوار العيون وهو يشرق في لا وعينا الجنوني في ليالي رمضان حين ينقلب إلى مهرجان من الألوان تتسوق مع هالات عطرها أسر الحلة حتى منتصف الليل، وكنت رجلا تزعجني حركات العسس والمكَاريين وعمال المطاعم والمقاهي والمكدين.. 
وأخاف أذان المغرب والوصول إلى بيتنا القريب الذي يمر بقلعة (مناحيم) وطاق (العبيد) وخان (حنون) وفيه وعليه كتبت أول كلماتي وأنا أراقب ضجته قرب نهر كله سمك ولآلئ تسبح بين أمواجه جورجيات حسناوات غير مرئيات من (مسقوفيا) وعليه ومنه وبسببه أبيض شعري فصار الرعاة يخاطبونني (عمي الحجي). 
ومن عجبي منه كان أهالي الحلة قد اتخذوه جسرا رمزيا لأتراحهم وأفراحهم فتحت سقفه رقص (حميدي الشعار) الغجري منافسا الصبايا الغجريات في أعراس شبابه من العاملين في السوق وفوق ثراه ودّع الحلّيون قوافلَ الحجيج إلى بيت الله واستقبلوهم بالصلوات والحلوى والأغاني من بدايته إلى بيوتهم.
وفي مغارب أيام حزينة كانت تمرّ به مواكب المشاركين في عزاء الإمام الحسين (ع) والأئمة المعصومين (ع) في احتفالات مواليدهم ومجالس استشهادهم إلى حسينية الإمام المنتظر في (السنية) وتمر أحيانا مواكب المشيعين من الأحياء لأصدقائهم الموتى وأقاربهم إلى وادي السلام. 
أكان هذا المكان مركز الكون وسرة الأرض لنا نحن الصغار والشبان؟! فلقد ركضت طفلاً مع المتظاهرين ضد العدوان الثلاثي على (مصر) هارباً من الشرطة الممتطين جيادهم وأسواطهم تلسع ظهور الصغار قبل الكبار، وكنت صبياً مراقباً أتابع حركة صبيحة يوم 14 تموز1958 حين أحاط المتظاهرون بمركز الشرطة على يمين الداخل اليه.. وكيف التقى الجمعان أمام بوابته التي أغلقت خشية وخوفاً مما يتوقع حدوثه وهم يحملون صور الشهداء الوطنيين المضحين من أجل الوطن وصورة كبيرة لـ (جمال عبد الناصر) وعلى أرضه رأيت صور الزعيم (عبد الكريم قاسم) وصورة (مجلس السيادة) بشخوصه الوطنية الثلاثة أول مرة وقد افترشها البائعون عرضا للبيع أمام الناس المندهشة جلست قبالة السحرة الذين يمرون به يوميا وهم يكشفون الغيب ومشكلات الباه والطلاق واللعنة ودخلت محل الصائغ (الياهو حسقيل) أحمل قلل احتفالات الربيع والسبوت وشاكست البداة المزدهين بأكل الكباب من مطعم (عبود الجحش).. ومن باعة الصحف كانت حصتي الاسبوعية أتلقفها من ايديهم بمجلة (سمير) و (بساط الريح) و (سندباد) و(السينما والعجائب) و(العالم) و(فنون) و (مرحى يا كآبة) لـ (فرنسوا رساغان) و(آلام فارتر) و(اللا منتمي) و (يا صاعد الشجرة) و (عنترة وعبلة) و (الاخوة كرامازوف) و(والفولاذ سقيناه) وروايات (نجيب محفوظ) و(شكسبير) كانت مكتبات شارع المكتبات تضخ يوميا مع باعة الصحف صباحا مجلات وكتبا ومطبوعات أرخص ثمنا من التراب.. وكانت مشاكساتنا لـ (لقالق) برج عمال الماء في مدخله سببا لهروبنا من عقاب من قبل المشتغلين من العمال صباحا، وحين أغادره قبيل الظهر الى الجسر القديم يومي الاثنين والاربعاء للاحتفال بمراسيم فتح الجسر أمام السفن المقبلة من الشمال وغرب العراق كنت مع أترابي اقف فوق جزئه المتحرك وأرقب النهر بأسماكه الفضية وسلاحفه الصغيرة وضفادعه ونوارسه وعتلة فتحة الجسر المجاورة لغرفة الجسار الشهور بعلاج الرضوض والكسور، كان هذا السوق المكان الذي كتبت فيه اول كلمات الشعر أبيات أبث فيها بعض آهات دروبه وصراخ مطارق الصفارين مع أذان الظهر.. فوقته الزعفران ذاب في عقارب ساعات الرمل.. أدخله الان في ضجيجه المزيف وأرى الناس سكارى وماهم بسكارى، فالزمن قاس والموت محيط بالناس شاهر سيف (كوفيد) المدمى والطاعن بالخوف واليأس والألم. 
وأعجب كيف هجره الجمال وهرب منه تاريخ الاقدام فالدخول إليه فردوس والخروج منه فردوس فكيف ينام العيارون؟ وهو لما يزل يقظاً ومتدثراً بسرادق عاشوراء.. وما زال ابناؤه يحدون احزانهم فوق مقرنصات ارضه المتشظاة من خوف كامن في الأفاق بترقب حسير مع ردات صباحاته المفعم بالبكاء انتظاراً لقادم يبني الحياة بالحب
والأمل.