صخب الافتراضي في (طحالب الميتافيزيقيا)

ثقافة 2021/06/17
...

 زهير الجبوري 
 
تمر القصيدة الشبابية الحديثة في دوامة تراكبية، تلك التي استمدت من جذور سابقة، أو حتى من مفاهيم طعمت بفنية عالية بغية اقحام اللغة الشعرية في منطقة الإثارة والإرهاق، الأمر الذي يجعل النص الشعري في تهويمة السؤال في جميع الجوانب البنائية، وهنا أعني تجربة الشاعر الشاب علي سرمد ومجموعته البكر (طحالب الميتافيزيقيا)، التي تقع في دوامة التشاكل رغم ازدحامها الملحّ بالتراكيب المجازية وبالايهامات الذاتية المشحونة بالانكسارات المتوالية، ولا ضير في ذلك اذا حققت الهدف غير ان الشاعر يطرح دفعة واحدة كلّ شحناته بغية كسب رهان هذه التجربة الشعرية، ومن خلال ذلك استنهضت مهاراته وأثبتت قدرته في كتابة قصيدة تماهي ظواهر الحداثة وما بعدها، وهنا أشير الى المضمون تحديدا، أما الاطار العام فهي قصائد نثر كتبت بأساليب معاصرة، لكن الأكثر انتباهة أن عنوان المجموعة لا يعدو سوى لعبة مفارقة، فـ (طحالب) و (ميتافيزيقيا) لا يلتقيان الّا في لغة الشعر، وعلى هذا الاساس استخدم علي سرمد المحسوسات والملموسات والكائنات الدقيقة لتصبح سؤاله الشعري بتفلسف خاص، مع خلق معادلات مجازية كثيرة في قصائد المجموعة، واظهار الحالات الوجودية والوقائع والاضطرابات المعاشة بـ (ماكير) شعري قابل للتلقي، وبشكل أدقّ مثلت تجربته هذه انعكاسا لقراءاته المتواصلة لفنون الفكر والفلسفة (بخاصة عندما كان طالبا في الدراسات العليا).
ويتضح امامنا ما يقوم به الشاعر في محاولة للاختلاف، وطرح الفكر والجدل به بعد إصراه على رسم صور بقصدية واضحة وبتراكيب افتراضية، لكن الاختلاف هنا انطوى على إطار اللعب اللّغوي وتغريب المعنى، وليسمح لي (علي سرمد) القول هل بعد تجربة سعدي يوسف وحسب الشيخ جعفر يمكن أن نرهق القصيدة بغية الوصول الى غاية..؟ .. وفي الوقت نفسه أظهرت تجربة كاظم الحجاج نفسها بأنها تلامس الواقع بلغة نثرية مجازية ناقدة وواضحة، بمعنى أدق ان غاية القصيدة الحديثة والمعاصرة تتشذب من زوائد البلاغة وفنونها وتنصرف الى هدفها المنشود في ملاحقة حالات التواصل المستمرة في (الميديا).
صخب الواقع هو ذاته صخب التدوين، صخب يتكرر عبر الأزمان، ولم يكن التاريخ سوى الشاهد على كل ذلك عبر مراحل تتجدد بأشكال مغايرة، وفي (طحالب الميتافيزيقا) أعاد الشاعر هذا الصخب عبر ملحمة شعرية خالصة وحدها تكرست في قصيدتين هما (مرآة الدم 1) و(مرآة الدم 2)، لتظهر اللغة الشعرية بوصفها الأداة الشاهدة على شواهد ووقائع وحالات مشبعة بدلالات حاضرة ولها جذور وجودية، فالنص الشعري يكشف عن هَمٍّ كوني، مع وجود خيوط مثيولوجية مستعارة، وكأن علي سرمد في هذا الجانب مهموم بالأركولوجيا أكثر من كتابته للقصيدة، لذا نقرأ: (امتثلنا للجحيم ../ وللغبار المتطاير من اجسادنا / لا الأبواب تغلق فمها.. ولا الشبابيك قائمة/ قتلنا على حد السيف/ وباعونا للملوك بحفنة من رماد الأساطير.. فهل أنا إلّا خرافة تجري في مستهل العدم.. أم انت جسر العبور الى اللانهاية) (ص53ـ 54).
من زاوية اخرى، تمثل نصوص المجموعة لعبة اقتراح افتراضي لبنية الكتابة الشعرية الإشكالية، ورغم ازدحام الثيمات المتناولة في جدل الواقعي والافتراضي والمتافيزيقي، فقد كانت تلامس العقل المجرد، ومن ثم تحتاج الى قارئ نوعي، وهنا تميزت النصوص بخطابها المتعالي، وبقصدية اشترطها الشاعر وكأنه يريد القول ان القصيدة هي ابنة الوصايا وان العقل الذي فك شفرة المقدس هو ذاته الذي ينسج من اللّغة شعراً ، لذا نقرأ: يا لله.. باسمك تعج هذه الأرض بالدماء (جريح الماء /ص24)
وبقدر ما أفاضت هذه العبارات بمعناها الملموس، بقدر ما يعلن عن وجود مشروع جريء ينطوي على مشهدية افرزتها تفاصيل المرحلة بكل وقائعها واضطراباتها ونزعاتها اللامركزية، غير ان (بهارات الكتابة) توقعهم في تطييب طعم النص الشعري بالمجاز والانزياح، نقرأ: (بيننا أجساد بلا رؤوس/ بيننا شجرة عارية/ لا ترمي الى ناظريها سوى الدخان/ بينما طفلٌ حنى رأسه فوق دبابيس الوقت).
وفي لعبة الافتراضي ايضا، ثمّة توجس قلق لهاجس الكتابة، أَظهرهُ الشاعر في لحظة شغف ولحظة وصف، وما تخبئه اللغة من نوايا تُظهرهُ الأحداث، وما تُظهرهُ الأحداث، تدوّنه القصيدة، هذا التركيب المجرد كان برهانا لما قرأناه، ففي قصيدة (كتابة) ينسرح المعنى بوصفه قضية كبرى: (قبل أنْ تكتب شيئا/ ارتد قبعةً .. ودرعاً/ واحذر تجاعيد الخطّ/ والكلمات التي تتغنى بأمجادها/ فوراء كلّ كلمة قاتلٌ/ يخبئ الجثث تحت الحروف/ وتاريخه يزهو بالنصر).
في (طحالب الميتافيزيقيا)، تكشف لعبة اللّغة الشعرية مدى قراءة الأشياء بعمقها الذهني عبر نوافذ عديدة وكبيرة وهي تفتح المقدس والمدنس، وتقلب جمر التاريخ بخيوط الحاضر، فهي مجموعة تنبئ عن أثر المرجعيات، وعلي سرمد رغم هذا التدفق والارهاق الواضح اللّذيذ في صناعة القصيدة وتأطير بناها، أجد في المراحل اللاحقة ما يجعله أكثر رشاقة، او ما تتبدى في طياته حواضر النص ليقدمها في تأنٍّ، وفي حينها يكون من أكثر شعراء المرحلة الراهنة حضورا وتواصلا لما هو جديد ومعاصر.