كابوس الموت في (كتاب الحياة)

ثقافة 2021/06/21
...

  إبراهيم سبتي
 
 تحيلنا المجموعة القصصية (كتاب الحياة وقصص أخرى) للقاص عبد الامير المجر، الى امكانية التنقل والمناورة بالزمن وبالمكان لصالح النص وتعزيزا للمبنى الحكائي. وإن دققنا في هذين العنصرين، سنجد بأنهما يمنحان القصة القصيرة بعدا جماليا وعمقا دلاليا داخل فضاء النص. وبالنظر لكونهما من اشتراطات القصة، فقد تقودنا الاحداث الى مشاهد تتحدد بزمان معين وفي مسارح مختلفة او متعددة بوتيرة متناسقة، وهذا بنظري ما يعطي المتلقي دفعة للمتابعة والتركيز وتحاشي التيه والضياع وازالة العمى عن المعنى واكتشاف الاشياء المدفونة داخل النص والتي لا تظهر بين السطور. وفي هذه المجموعة (كتاب الحياة وقصص اخرى) ثمة دلالات واضحة على البحث والتقصي من قبل الآخر ـ المتلقي، الذي سيغوص بين الواقعي والعجائبي لأجل المتابعة والتنقيب عن المكنونات التي حرص القاص على عدم اظهارها، انما تحتاج الى التأويل ربما. بعد قراءتي للمجموعة وجدت ان قصة (كتاب الحياة) التي صارت عنوانا للغلاف، قد استفزت المخيلة ومنحت الكثير من الوقت للاستعادة والتحليل والتوقف واعادة القراءة ثانية. في القصة ثلاثة ازمان وثلاثة امكنة تناوبت على صنع الحدث وفعل الروي متنقلة من مشهد الى آخر للوصول الى الثيمة الرئيسة وهي ـ الموت ـ المتداخل بين الحلم والكابوس واليقظة والتي تفسر على ان كل شيء سيموت في النهاية. تبدأ القصة في الزمن الحاضر وفي المكان الاول ـ البيت ـ يرن جهاز الهاتف برقم غريب وصوت متموج ليبلغ الراوي بخبر اعدامه.  ننتقل مباشرة الى زمن آخر هو الليلة الفائتة حين كان يقرأ كتاب الحياة الذي اهداه له صديقه ولم يفهم منه شيئا لتداخل فصوله وتقاطعها مع بعضها مما ارقه وأربكه (كنت اقرأ واعيد ما قرأت أكثر من مرة، من دون أن أفهم شيئا) ص 32. ولكي ينتقل الى زمن بعيد ومكان ولادته الاول، يجعل من الموت نقطة الوصول اليهما، فالموت صار هاجسه وأربك تفكيره، فيسرد حكاية العجوز الذي كان يدون في ارجاء القرية يحمل كتبا ويتململ عن الموت للعاصين (لم يشغلني الموت وحده، بل ما بعده ايضا، لأني لا اعلم لماذا جئت الى هذه الدنيا، ولماذا اغادرها) ص 33 . فاقترن الموت بالعجوز في زمن الطفولة وهو يتكلم عن عذاب القبر وحفر النار والثعابين. فيكون هذا الاسقاط حاضرا بعد اربعين سنة من وقوعه وهو يتكلم عنه بشيء من الخوف والرهبة. غير أن القصة تشهد تصاعدا في احداثها وهي تنتقل عبر مشاهد تختلط بين الشك واليقين وبين الحلم واليقظة داخل بناية المدرسة التي ضاعت معالمها وتغيرت وجوه تلاميذها واختفى مديرها من غرفته. هنا يبرز المكان الثالث والمهم في القصة عندما يظهر شيخ طاعن يحل محل مدير المدرسة ويطلب منه تسجيل يوميات الطفولة ومشاهداته في كتاب الحياة الذي لم يجد فيه شيئا مكتوبا (مرت لحظات كنت خلالها اسبح في عرقي، وأخذت أتلفت مشدوها، لا أعرف بالضبط ان كنت في حلم او في يقظة) ص 41. كانت عملية التنقل بين مسرح الاحداث وحكاياتها وعمليات المقاربة والاستدلال، قد اعطت دلالة مؤثرة على قيمة المكتوب الظاهر الذي اراد القاص ايصاله. والقصة القصيرة هي فن صعب ويحتاج الى صنعة وحرفة في ادارتها لكونها تختزل الكثير من التفاصيل التي على القاص ان يكون ملما بها لإنجاح قصته مستخدما اللغة المختزلة والوصف المقنع والتحليل المنطقي للشخوص والحدث الساحن المتفاعل. وهذا ما وجدته في قصص كتاب الحياة وخاصة القصة مدار البحث. ولابد من ايجاد الدالة المقنعة للآخر الباحث عن الدهشة والجمال في النص القصصي وخاصة عند استخدام ثيمة الموت المتضاد مع الحياة واظهار المعنى المترابط بينها في دلالة العنوان (كتاب الحياة). وما فعله القاص في تبطين المعنى بالرمز، اضاف بعدا معرفيا وجماليا في اظهار المتناقضات التي بدت مثيرة وواثقة وقد تأتى ذلك من خبرة القاص الطويلة وتمكنه من استخدام المؤثرات الحكائية وخاصة الشعبية، استخداما مناسبا في نصوصه التي منحت فسحة من التفكير والتأمل. وعندما يعود الراوي من المدرسة التي انقلبت رأسا على عقب وضاعت ملامحها، الى بيته، تخبره زوجته بأن صديقه الذي اهداه كتاب الحياة قد مات، ما منح القصة اضافة اخرى من المفاجأة والمفارقة التي لم يتوقعها. فسجل الراوي يوما ساخنا مشحونا بالألم والشكوك والكوابيس غاص خلاله في رحلة يعيدة، الى زمن الطفولة اللذيذ الذي اراد به تبيان البراءة وربطه مع الحاضر المتشابك والمسكون بالإحباط والهموم. (وصلت الى البيت، كان الغروب الكئيب منعكسا على وجه زوجتي الذي بدا حزينا، وهي تفتح لي الباب، جسدي منهك، واشعر ان هذا اليوم صار فاصلا في حياتي) ص 44 . وبذا تكون الحكاية قد منحت المتخيل المقنع للمتلقي المولع بالأجواء الكابوسية والباحث عن الدهشة.. (كتاب الحياة) هي المجموعة القصصية الخامسة للقاص عبد الامير المجر صدرت عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين.