الازدواجية الثقافيَّة

ثقافة 2021/06/21
...

  أ.د. باسم الاعسم
من الفيروسات التي علقت بجسد المشهد الثقافي والمرحَّلة إليه عبر أشخاص حاملين لها، هي (الازدواجية الثقافية) إن جازت التسمية، والتي تفصح عن حجم التناقض أو الصراع الداخلي بين النيات المضمرة وبين الأفعال السلوكية الظاهرة، فيصرح المرء غير ما يضمره، أو خلاف ما يؤمن به، مع علمنا كما يقول: (فيدرو دوستويفسكي) إن أقسى أنواع الاضطهاد أن يعمل المرء ما لا يؤمن به.
ومن جراء ذلك، تسود المجاملات، والمراءاة فيعم الدجل الثقافي المتجسد عبر آراء أو أحكام ومقالات تجافي الحقيقة، فيمدح نويقد مغمور قصة أو رواية لا تستحق القراءة، لكنه يجعل منها عملاً هائلاً، ومن كاتبها من أساطين السرد، أو يصرح لمؤلفها بأنه قرأ الرواية مرات، وفي الواقع إنه، لم يتصفحها بالمرة.
وكثيراً ما يمتدح شخص قد حسب على المثقفين زوراً، نصاً شعرياً ركيكاً، فيعده من النصوص الشعرية المتينة التي لا تقل شأناً عن إحدى المعلقات، جرياً على وفق مبدأ (الغاية تبرر الوسيلة). ومن بعض الازدواجيات الثقافية غير المحمودة، أنه طالما لاحظنا أن عرضاً مسرحياً لا يستحق المشاهدة والتصفيق، وما أن تستدل الستارة، يهرع عدد من الجمهور الى خشبة المسرح لتهنئة المخرج والممثلين الذين يشعرون بزهو عظيم وإن أخفقوا على الصعد كافة، وذلك بفعل الدجل الثقافي، وربما يُكتب نقد طويل يبجل العرض، بدوافع شخصية بحتة، وقد يحدث العكس تماماً.
ومن أشكال الازدواج الثقافي، هطول زخات من التحايا، والتبريكات والمقالات لرسام متواضع في أسلوبه وتجربته، أو رسامة مبتدئة، أو إعلامي لا تستقيم جملة مفيدة على لسانه. أو مطرب لا يطرب. ولا يمكن أن نغفل عن بعض الازدواجيات الثقافية في أثناء مناقشة الرسائل أو الأطاريح الجامعية، بوصفها جزءاً من الحراك الفكري والثقافي، فيحدث في بعضها أن تؤشر أخطاء الباحث العملية والمنهجية واللغوية، وربما بعض السرقات العلمية أو الأدبية، لكن سرعان ما يمنح الباحث درجة الامتياز.
أما على صعيد مواقع التواصل الإعلامية، فقد اِتسعت ظاهرة الازدواجية الثقافية، وان كانت بصيغة كلمات على غرار (مبدع كبير، كاتب عظيم، شاعر خطير، فنان رهيب) وهكذا لكسب ود الآخر حسب. إن أسوأ وأفحش أنواع الازدواج الثقافي ما نلمسهُ من سلوكيات بعض أدعياء العلم والأدب والفن، فثمة شخصيات متلونة ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر تستعر في نفوسها ألسنة الحقد، فتصادر ما سواها سداً لنقصها، ويغيظها الآخر الذي يضاهيها، من دون أية مسوغات مقنعة، سوى الشعور بالإحباط والغيرة من تفوق الآخر، وطالما عرف بعض ذوي القصور الفكري والتخلف الاجتماعي، بالازدواج الثقافي، فتعبأ نفسه القبيحة بشتى صنوف الرياء والكذب، وهنا تتضح الفجوة الثقافية والأخلاقية، إذ إن الثقافة إن توفرت لدى الشخص فإنها تهذب سلوكه بنحو متحضر، وإذا ما كانت بنيته الأخلاقية رصينة متكاملة، فإنه لا شك سيكون محصناً ضد كل أشكال الازدواج، وهذا هو الفرق بين المثقف والجاهل المتثاقف.
ولذلك، قيل عبر الشعر:
ملء السنابل تنحني بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ
مع يقيننا من أن المثقف الملقح عقله بسياسات الفكر الأصيل، والمعرفة الموسوعية الرصينة، يكون في منأى عن تلك القباحات السلوكية، كالازدواجية وسواها.
لذلك، ان المثقف المحصن لا يتبعه الهوى الشخصي، فتراه براء من الازدواجية، فهو أكبر من أن يتصاغر قبالة النزعات اللحظوية الزائلة، أو المجاملات الآفلة، مع يقيننا، أن كلمات التبجيل التي تقال في غير محلها، ليست لها أية قيمة تذكر، لأنها كالعملة التي بلا غطاء، ولا يدرك ذلك، سوى المترفع عن الصغائر، الذي لا يعول على الجاه واللقب، والمال والمنصب، بل يجتهد لبناء ذاته ثقافياً ومعرفياً، لكي لا يتساوى والذوات 
النكرات.
إن أصل الازدواج الثقافي، الوهم غير الواقعي القابع في النفوس المأزومة والموهومة، فمتى تحررت من سطوة الوهم أمست أكثر واقعية في التعامل مع مدركات الحياة والواقع. كما أن معرفة النفس خطوة رائعة باتجاه، بناء الذات فلسفياً ومعرفياً، وثقافياً واجتماعياً، ولذلك أوجز الحديث الشريف المسألة بالقول البليغ (رحم اللهُ أمرأً عرف قدر نفسه)، لان معرفة النفس تجنب الشخص السلوك الازدواجي، فتترسخ في شخصيته الخصال الحميدة.
لقد برزت في انتخابات النقابات والاتحادات المهنية بعض الممارسات الدالة على الازدواجية الثقافية، كأن يطلب أديب أو فنان من أشخاص أن ينتخبوه فيعول على أصواتهم، ويعدونه بأنهم سينتخبوه، لكن بعضهم يمتنع عن ذلك، ولغايات شتى، وربما لا يوجد سبب منطقي، وتلك هي المأساة.
ولا شك أن الوعي الرصين والثقافة الواسعة والترفع عن الصغائر، والزهد بالمناصب والنشر والتواضع، تسهم في تسامي النفوس وتسبغ عليها سمات الرفعة والجلال وتبعدها عن القيل والقال.