سحر الميلانين وتاريخ القسوة

ثقافة 2021/06/22
...

 د. نصيرجابر 
 
في المدونة السردية العربية الأهم والأشهر (ألف ليلة وليلة) يكون المسوّغ الأول لبدء السرد الهادر المتدفق الغزير والذي سيستمر طويلا جدا.. قراءة وتداولا للكتاب وروايات شفاهية مأخوذة منه هو (الخيانة) التي يكون بطلها (العبد الأسود) وكأن العقل المؤسس النساج لهذه الحكايات الساحرة أراد أن يقول تلميحا أن هؤلاء (العبيد) أصحاب البشرة السمراء هم أسّ البلاء وبئر الشر ومستنقع الرذيلة وسبب انهيار المنظومة الأخلاقية والاجتماعية التي كانت تحكم هذه المدن الآمنة المستقرة المزدهرة وليس الجور والجوع والطغيان والطبقية المقيتة وأنظمة الحكم
الفاسدة.
وفي التاريخ البشري الصاخب مشاهد ومقاطع مفصلية كثيرة تصفعنا بشدّة ونحن نتأملها فنرى الحيف والخذلان والأسى وعدم الانصاف في أبشع صوره، ففي أحد هذه المقاطع يظهر لنا الفارس النبيل عنترة بن شدّاد أحد شعراء المعلقات الكبار وهو يمرّ بأزمة انسانية حادة بسبب لونه الذي ورثه عن أمه الحبشية ولا يجد سبيلا للاعتراف به إلّا طريق الشجاعة التي تجعل منه في قيم البداوة عنصرا ضروريا لدرء الخطر المحدق بوجود القبيلة، وهنا فقط يتمّ انصافه، ولكن بعد عمر طويل من الظلم المبالغ
به. 
وفي مشهد آخر نقرأ حادثة شهيرة في كتب الأدب فنكاد نسمع صرخة المتنبي الحرّاقة (303هـ-354هـ) وهو يشهّر بأصل كافور الأخشيدي العبد: (لا تشترِ العبد إلا والعصا معه/ إِنَّ الـعبِيد لأنجاسٌ
مناكيد).
ثم يسخر منه بطريقة تهكميَّة غير آدميَّة: (من علمَ الأسود المخصيَّ مكرُمة/ أقومه البيض أَم آباؤه الصيد).
فلا يهم المتنبي هنا مثلا رحلة كفاح كافور الشاقة المضنية وعصاميته وكونه الملك العادل المعتدل كما يشهد بذلك كلّ من أرّخ لعصره. الذي صعد بذكائه وصبره وقوة شخصيته من أسفل درجات السلم الاجتماعي ليكون واحدا من أشهر ملوك مصر والعالم القديم.. وتأمل النص جيدا يخبرنا من هو العبد الحقيقي الذي أسرته فكرة الجاه والطمع وسحرته المناصب التي سعى لها طوال حياته، ولكنه الشعر ووهمه الخداع هو الذي قلب المعادلة الانسانية الواضحة تلك المعادلة التي تظهر بجلاء سخف العقل البشري واستعلائيته الفارغة السمجة التي جعلت من لون البشرة مقياسا لآدمية الانسان وليس أفعاله وعمله وقدرته على
الانتاج. 
ومع هذا المقياس المجحف بدأ تاريخ من القسوة المفرطة اتجاه أناس لا ذنب لهم سوى أن الميلانين زاد في جلودهم ليعطيهم حماية ووقاية ضد تغيرات المناخ القاسية هم أصحاب البشرة السمراء ذلك العرق المظلوم الذي عاني طويلا من عدوانية وجشع وتكالب البشر فتحول سلعة تباع وتشترى في تجارة الرقيق سيئة الصيت، وهي بلاشك ولا ريب من أسوأ صفحات التاريخ البشري. فقد وصل الحال ببعض تجار الضمير أن يعرضهم في حدائق الحيوانات من أجل مزيد من المال وتغذية الأنا المريضة بعقد التفوق
 المزعومة.
وعلى الرغم من كل الجهود الجبارة التي بذلت فما يزال القول بأن العبودية (عبودية اللون) قد انتهت من العالم أمر سابق لأوانه فقد سمحت لنا وسائل التواصل الحديثة السريعة أن نكتشف ونرى كل يوم مشهدا آخر يضارع تلك المشاهد القديمة، إذ يتعرض أصحاب البشرة السمراء إلى التفرقة العنصرية وإلى التعامل العنيف غير المسوّغ  من أناس لا يدفعهم حجم الجرم أو المخالفة الآنية أو طبيعة الموقف الذي يقع فيه هؤلاء بل يدفعهم أرث حقود وعقل جمعي مشوه؛ لذا تكون ردة فعلهم أكبر من المفترض حينما يتعلق الأمر بلون البشرة الداكن.
وككل الظواهر السلبية ذات الطبيعة العمومية التي يتعرض لها المجتمع يكون نصيب المرأة من العذاب والحرمان والحيف دائما أكثر من نصيب الرجل بوصفها الحلقة الأضعف؛ لذا فقد عانت صاحبة البشرة السمراء من نظرة نمطيّة ماتزال راسخة في عقول الكثيرين، نظرة حرمتها من حقها المشروع في العمل والزواج أو الظهور في أعمال إعلامية ذات طبيعة إشهارية. فالمجتمع وعلى الرغم من كل التغيرات الايجابية الحاصلة في بنيته يربط ما بين لون البشرة وأنماط من السلوك قارّة في وعيه الجمعي.