صحوة الأبديَّة التي تنتصر في قصيدة (لا تكن فخورا أيُّها الموت) لجون دون

ثقافة 2021/06/24
...

  محمد تركي النصار
 
يعد جون دون واحداً من ألمع الشعراء الميتافيزيقيين في النصف الأول من القرن السابع عشر. تميزت أعماله بقوة المجاز والصور المبتكرة التي تصدم القارئ في أحيان كثيرة.. كتب العديد من السونيتات والقصائد الغزلية والدينية. قصيدة (لاتكن فخورا أيها الموت) واحدة من أهم وأشهر قصائد دون.. في هذه القصيدة، يواجه المتحدث عدوا هو الموت تتم مخاطبته بوصفه شخصا، وبالرغم من ان هذا العدو هو الأكثر اثارة للرعب، لكننا نرى في النص متحدثا ساخرا منه داعيا اياه لأن يتواضع ويخفف من تبختره.
وتظهر الطريقة التي يتحدث فيها المتكلم مع الموت بأنه ليس خائفا منه.. نغمة الثقة والمواجهة المباشرة مع الموت تعكس السخرية والمفارقة للقراء، لأنه في النهاية ستتم الاطاحة به من قبل شيء أعظم
منه:
 
أيها الموت لاتكن فخورا حتى لو سمَّاك البعض 
بالمهلك الجبَّار، لأنك لست كذلك
وهؤلاء الذين تعتقد أنك قضيت عليهم
لا يموتون، أيها الموت المسكين،
ولا تستطيع قتلي.
 
يخلق المتحدث منذ الوهلة الاولى صورة للموت بوصفه كينونة متغطرسة وبأنه (الشخص) الذي يجب عليه أن يتواضع، داعيا إياه الى ألا يكون متفاخرا بالرغم من انه لأجيال واجيال يدعونه بالمفزع الجبار في ما يقول المتحدث بأن الموت غير مفزع وليس
جبارا.
جون دون في هذه القصيدة يستخدم تكتيكا أدبيا يتمثل بمخاطبة شخص لتوضيح فكرته وهو مايسمى بالمناجاة. ويدرك القراء منذ الوهلة الاولى بأن هذا الصوت الذي يتكلم هو من يقوم بالمهمة كلها بالحديث عن الموت واتهامه. وبرغم التعامل معه بوصفه شخصا إلا أن الموت لايستطيع أن يرد على اتهامات المتكلم.
هنا يوجه الاتهام للموت بأنه يعيش وهم العظمة من قبل الصوت الذي يخاطبنا في القصيدة، مدعيا بأنه في الوقت الذي يعتقد بأنه يمتلك قدرة القتل والإفناء فهو لايمتلكها في الحقيقة، وان هذا لايعدو كونه وهما، ولاذلال الموت أكثر يخاطبه بالقول: أيها الموت المسكين. مواصلا تحديه بأنه لايستطيع أن يقتله، ويبدو أمرا منطويا على الخطورة أن يتحدى المرء الموت بهذه الطريقة.
وفي هذا تفسير للعقيدة والايمان الديني إذ كان جون دون قسا والمعرفة التي يتمتع بها تؤهله لأن ينطلق من ثقة تمكنه من ادارة القصيدة بمهارة، عارفا الحدود التي يتحرك بها روحيا من دون السقوط في فخ التجديف.
وبالرغم من أننا جميعا نعرف بأن الموت المادي الجسدي هو أمر لامناص منه لكن التحدي هنا يكون منطلقا من فقه الايمان ومفهوم تحرر الروح وانعتاقها من سجن الجسد حيث الأبدية المطلقة:
 
 
 النوم والراحة صورتان من صور المتعة النابعة منك
 ومن حقنا أن نتوقع المزيد منها،
مبكرا يرحل معك رجالنا الأخيار
من أجل راحة عظامهم 
وتحقيق الخلاص لأرواحهم.
 
تكون المقارنة هنا بين الموت والنوم والراحة باستخدام كلمة (متعة) ليصف كيف يشعر الانسان ازاء الموت، كأنها ليلة نوم هانئة تجلب المتعة، هكذا هو الموت ولا داعي للخوف منه.
وتتوالى الخواطر بالإشارة الى أن الرجال الأخيار يموتون مبكرا، بينما الآخرون البائسون يعيشون أطول، معللا بأن الأفضل هم من يستحقون سلام راحة الموت قبل الآخرين للخلاص من هموم الحياة الطويلة على الأرض، واصفا الفناء بأنه راحة للعظام وتحرير للروح من سجن
الجسد.
ويتجرأ المتحدث في القصيدة على مهاجمة الموت والتقليل من شأنه مستخدما نغمة أقوى واصفا إياه بأنه عبد للمصادفة والملوك والناس البائسين، ولا يستطيع أن يتصرف وحده بل بالقدر والمصادفات واصفا أصدقاء الموت ورفاقه بأنهم هابطو القيمة وسيئو السمعة مثل السم والحرب
والمرض: 
 
أنت عبد للقدر، للمصادفات، للملوك وللرجال البائسين،
ومع السم والحرب والمرض تقيم،
الأدعية والخشخاش تجعلنا نستغرق في النوم أيضا 
أفضل منك، فعَلَامَ هذا الانتفاخ والغطرسة.
 
هذه الاتهامات الواثقة تساعد القارئ على الشعور بنشوة الانتصار.. وفي آخر أبيات القصيدة يظهر السبب الجوهري لمهاجمة الموت بهذا المستوى من الازدراء بالرغم من حتمية الزوال وحقيقة ان الناس الذين يموتون لا يعودون للأرض مرة
أخرى. 
إذ يصف جون دون الموت بأنه يشبه النوم القصير الذي تعقبه صحوة الأبدية التي عندها يموت الموت نفسه وتنتهي أسطورته فيستيقظ الجميع معبرا عن انتصاره على الفناء وتحقيق الخلاص والخلود
الروحي:
 
نوم قصير، وبعدها نستيقظ للأبد
حيث لا موت بعدها
لأنك عندها ستموت أيها الموت.