نصوص وجيزة وقناديل الحروب

ثقافة 2021/06/27
...

  علوان السلمان
 
 الشعر (فيض تلقائي للعواطف الدافقة) على حد تعبير الشاعر الانكليزي ووردزورث.. كون الكتابة الشعرية إبداع واتقان مع تمكن لغوي وقدرة على إلتقاط اللحظة وخلقها بصور مكتنزة بفكرة مكثفة، مسايرة للتغيير الحياتي بفعل التحولات الحضارية الكبرى التي أسهمت في تغيير الأسلوب.
 وباستحضار المجموعة النصية (لا ضوء في قناديل الحروب) التي نسجت عوالمها الصورية أنامل منتجها الشاعر جبار الكواز، وأسهمت دار أمل الجديدة في نشرها وانتشارها/2021، كونها نصوصا تعتمد البناء الكتلي المؤطر بوحدة عضوية، وهي تحتفي بجماليات الطبيعة والمرأة مع نزوع الى التصوير والسرد البصري باستلهام الواقع أسلوباً ورؤية بلغة ايحائية وتعابير مجازية تشكل منظومة ثنائية (الذات والموضوع)، فضلا عن اكتنازها بالدلالات والايماءات القابلة للتأويل مع سردية خطابية معتمدة المنولوج الدرامي بغية اظهار المنظور النفسي والفكري ضمن اتساق بنائي وجمالي، فضلا عن توظيف الرمز كإيحاء لتصوير منطلقات المنتج الفكرية عبر مرتكزات الدفقة الشعرية التي تتخذ من (التكثيف والايجاز والاختزال الجملي) لتحقيق مغامرة المعنى: (حينما تسقط من سمائك نجمة حيرى/ دعها تغرق في أوهامها/ هي التي خدعتها المرايا/ فحسبت نفسها شمسا في الظلام).. (لما تزل في ارتباكها تقايس الأسود بالأبيض والهجرة بالإقامة/ والحرب بالسلام).
 فالشاعر في نصه يتوحد مع رموزه للوصول إلى بوابة الحقيقة القائمة على الحديث الشريف (رحم الله أمرئ عرف قدر نفسه) بملامسة الفاظ موحية بعيدة عن الضبابية والغموض الخالقة لصورها بتراكيبها الجاذبة الخارجة من ملكوته الذهني صوب ملكوت المتلقي مع محافظته على مساحة التكثيف الجملي ليمنح نصه بعدا تأويليا بتعدد الدلالات والرؤى، فضلا عن توظيفه الثنائيات الضدية (الأسود والأبيض) و(الهجرة والإقامة) و(الحرب والسلام).. لإضفاء دلالات نفسية يرتكز عليها في بناء المشهد الشعري، فضلا عن أنها اضفت فاعلية شعرية على النص وأسهمت في توسيع فضاءاته الفنية والدلالية: (انت علمتني ما يقال.. فكيف اقول ما لا يقال؟ / خذ لساني وديعة/ وعلمني عبور المحال).. (رسالتي السرية التي وصلتك/ ما زلت اكتبها/ انا منتظر ردك منذ قرون).. (الرجل الواقف خلف الباب/ هو الرجل الواقف امام الباب/ ولا جواب للباب في مطارق السائلين).
 فالشاعر يستند في كتابة نصه الى البناء الكتلي (المقطعي) معتمدا الاقتضاب والتكثيف والتبئير والتركيز مقتربا من الصوفية ومقولة النفري (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) بما يحمل من دلالات على مستوى الرؤية والوعي بتجاوزه وسعيه لتفجير اللغة وشحنها بأعلى درجات التكثيف لتحقيق تجربة شعرية حداثية تقوم وفق المستوى الأسلوبي والبنائي والدلالي بوعي فكري يتخطى المألوف، وهو يعتمد تقنيات فنية وأسلوبية كالاستفهام العلامة السيميوطيقية التي تحيل الى سؤال الدهشة الكونية والباحث عن الجواب الذي يسهم في توسيع مديات النص، وهناك التكرار اللفظي الدال على التوكيد والكاشف عن الجوانب النفسية والدلالية التي تنطوي عليها الشخصية المنتجة في تشكيل رؤيتها ووصف الحالة الشعورية التي تتملكها لحظة البناء الشعري، فضلا عن توظيفه المكان الكيان الاجتماعي الذي يحتوي خلاصة التفاعل بين الإنسان ومحيطه والكائن المتحول إلى تمظهرات متفاوتة والذي يشكل الأرضية التي تشد جزئيات النص بعضها ببعض: (اين مضى النهر في عيون الغرقى؟/ فحين سألته.. أجابني: اشششششششش/ دعني نائما أيها الملحاح/ حينما نام اسد بابل/ اختنق شارع الموكب بروث الغزاة/ بين اسد بابل وشط الحلة ساعة نائمة منذ عهد يأجوج ومأجوج).
فالشاعر يعتمد السردية الشعرية مع درامية منولوجية ببنية لغوية موحية واستعارات تنم عن قدرة انتقائية للألفاظ وسبكها بوحدة تركيبية تشكل مشهدا صورياً عبر رحلة وجدانية مكانية معبرة عن أدق المعاني المتصاعدة بحركتها الدينامية وصورها التي (تتشابك بها الدلالات الفكرية والعاطفية في لحظة من الزمن..) على حد تعبير أزرا باوند: (يا سليمان علمني/ منطق الطير وهمس النمل/ لأعرف من دس مدينتي في خرج الرمال).
فالنص يقترب من الحكائية المستغيثة بتدفق وجداني يسبح وسط دائرة الوعي مع تفعيل الاثر الذهني بتجاوز الواقع والاشتغال على الانزياحات اللغوية والمجاز والمفارقة بقدرة تعبيرية مختزلة التراكيب الجملية بتوظيف الأساليب اللغوية كأسلوب النداء المحرك لأفق الاحساس والكشف عن البعد النفسي، والاستفهام الذي أسهم في تحريك دلالات النص التركيبية، فضلا عن توظيف آلية التناص من اجل تشكيل بنيات داخلية مع توكيد موقف وترسيخ معنى.
 وبذلك قدم الكواز نصا تبرز فيه قوة التجريب الجمالية مع تماهي الشعري والبصري الذي يضيء فضاءاته النصية التي تشكل صورا واستيهامات تنطلق من الواقع الذي تنتمي اليه، فضلاً عن احتفائه بجماليات المكان والطبيعة مع نزوع إلى التصوير والسرد البصري بائتلاف وحداته النصية على المستوى الدلالي برؤى متآلفة بوحدتها الموضوعية مع تخصيب المعنى وتكثيفه من خلال الممازجة ما بين الوجداني والحسي.