عن المعلم والساحر

ثقافة 2021/06/28
...

 ياسين طه حافظ
 
من كتابات مبكرة لمارسيل بروست، هذه الاسطر التي تضعنا أمام ثلاث مسائل ونحن نهتم بالكتابة الادبية. يقول بروست:
«لذا، يا أوليفان، أنت مستاء من عشيقتك ومصايفك وربما من حبيبتك ومن نفسك!، السبب يا أولفان هو أنك شديد البؤس. لم تكن صرت بعد رجلاً وتريد أن تكون أديباً!».
القضايا المعقدة التي نواجهها او يعاني منها أولفان هذا (وقد يكون هو بروست)، تحتاج الى قدرات ادبية تستوعبها ثم تعبر عنها. فقد خلت الدنيا حواليه من الصحو. وكان الامر سهلا لو جاء غيم وبعد ساعة او ساعتين يزول. شدة بؤسه نتيجة مثلما هي سبب. وحال كهذه، مثقلة بما يكره أو يستاء منه، تزداد اسباب تجهمها كلما اوغلنا في معرفتها وتكشف المزيد منها. فحين أراد ان يعبر عن استياءات مثل تلك وهو بعد غِرّ، أخفق. هو لم يصفُ نفسيا ولم يكتمل نضجاً. انه عجّل لأن يكون أديباً. نعم، له أسباب تعجله، نفس مأزومة متعبة مما لا يريح ومستاءة من أقرب الناس له وأقرب الاشياء. فالحاجة للتعبير في حال كهذه حاجة صعب تأجيل تلبيتها أو الاستجابة لها. وليس أوليفان الوحيد بهذا، كل منا احياناً يكون أوليفان. تتعدد استياءاته وتعجز عبارته مثلما يقصر فهمه ولا يستطيع صبراً. لكن ان يطلب الادب مبكراً ومبكراً يريد ان يكون أديباً، ستكون نتيجة ذلك انه يكتب ادباً ولكن سيستاء مما كتب، وقد أضاف الى الاستياءات التي اراد التعبير عنها استياءً آخر فقد سعى لما هو بعد قاصرٌ دونه. نحن في عصر أقنعنا بأن الدرس والتدريب وراء الجيد المتقَن. والدراسة واستمرار الاطلاع والتثقيف، مع الدربة والمطاولة، أسس لكتابة جيدة. كانت «ربات إلهام»، وربما ما يزلن أو شبيهات لهن اليوم، ملهمات. لكنهن لا يلهمن من لم يكتملوا وعياً وتجربة وملكات تعبير. هن يلهمن صناع الادب المقتدرين ويفزعن من النشاز والركاكة واللا معنى. 
ولكي لا نظل نتحدث عن بعد، فلنكن في الورشة الادبية ولنستعرض نماذج مما في ورش الكتاب او من صناع الادب. سنرى ان اتقان التعبير لغةً برز فيه منشئون كبار، ونظم الشعر برز فيه نظامون كبار، ومن هؤلاء من راح يتفنن بالسجع أو في فنون البديع أو في بلاغة ومتانة التراكيب. شُغلوا بهذه «الفنون» او البراعات. ولا نقلل من شأنها أو من أهميتها في تاريخ الادب كما لذائقة الناس في زمانهم، ولكننا ندير الوجه ان اقتصروا في الكتابة عليها. عالمهم، وسطهم القديم، لم يكن يملك آفاقاً أبعد للتفكير، فلا رؤية أوسع واحلامهم حتماً لا تتجاوز ما تمنحهم العادية في التفكير. القدرات كانت في التفنن بظاهر اللفظ وظاهر الكتابة. وحول هذين فروع البلاغة السائدة، استعارات، هي تشبيهات أكثر مما هي مجازات، وجرس ألفاظ وايقاع كلمات اتخذا صيغاً رتيبة وحتى المختلفة تركد طويلاً فتفقد اثارتها. ومع هذه كثرت المرادفات والتفننات المظهرية وظل فقيراً «علم المعاني». مأزوم مارسيل بروست، أوليفان، ليس عربياً. ولكنه معنا في الادب غير المقنع أو الذي يفتقد ما يستوجب الانتباه أو تثير أهميته الثناء. هو مثلنا حين لا نحقق نجاحاً لقصور باعنا أو لفقر ثقافتنا. فنزيد استياءاتنا الكثيرة استياءً!. بسبب زيادة وعينا للعصر وفهمنا لحال العالم والآخرين حولنا صار الإنسان اليوم أشد مواجهة لمحنة وجوده. لم يعد عيشا عابراً وسذاجة، هو يواجه اليوم محنة عيش ومحنة وجود وعدم اقتناع بما ورث من قيم وهو اليوم ايضا أكثر قلقاً من الموت والمجهول. قلق البشر موضوع تخصص كبير. وأدب يكتفي بفنون اللفظ وبالموضوعات المستهلكة ومحاكاة «السوى» وبقصر النظر وضيق الافق، اقل من ان يسد حاجة. هو أقل من ان يعبر عن حياة إنسانية جديدة وظروف بهذا الحجم من التعقيد. لا يرضى قارئ أو سامع بموضوعات مل منها. 
فيسخط على هكذا كتابة ويرمي ورقاً مليئاً بلغو مهذب لا يقدم رؤية جديدة ولا حلاً أو يكشف ما لا نرى في زحام الحياة. ما عاد أحد اليوم يزهو بفقره. لغة ساحرة وعذبة، قل جميلة، ولكنها بلهاء لا تقنع أو تثير. 
إنسان اليوم غير مقتنع ولن يقتنع بما يملك ويريد مقتنيات جديدة من كل شيء، من الادب والفنون كما من السكن والطعام والازياء والعلاقات الاجتماعية والافكار واساليب العيش. أعجب لناس يلغطون ويملؤون الصفحات بلغة مللناها عن الحب وكأن لم تتغير معان ولا علاقات ولا ذائقة ولا جدّت كتابات وأساليب. ما تزال المرأة قمراً وقد داسوا على القمر بأحذيتهم الكبيرة. كفى يا ناس، العاطفة اليوم تجاوزت مستوى الجوع البدائي الى الافضل والاجمل والاعمق. 
هي أكثر معقولية مما كانت. ما عادت الكتابات عن المرأة والحب تشهياً بائس المستوى وهستيريا ألفاظ قريبة من أحط أنواع الرومانس وأقلها شأنها! المرأة اليوم غير التي ترون. ما عادت بعيونهن غابات ولا ملائكة ولا شياطين ولا سهام وسيوف. اخجلوا واكتبوا عن المرأة الإنسان الممتحن بل المدمر وعن الجمال في محنة أو عن الجميلة مزدهرة أو منكسرة، وتمنوا لها ولأنفسكم حياةً نظيفة تليق بحب إنساني وبمعنى للجمال أكبر وأعظم. الصوفيون القدامى رأوا للجمال النسوي صورة أفضل كثيرا مما رأينا!. 
مرحباً بالكتابة البليغة، بالبيان الساحر. لكننا نريد في الكتابة البليغة الباهرة فكراً وكشفاً ونريد معاصرة حية. الساحر ممتع بشراً كان أو كتابة. والمعلم نافع عظيم النفع وكاشف حقائق مجهولة. والادب ليس علما وليس سحراً، نريد ان يجتمع في الكتابة المعلم والساحر!