قراءة في رواية «دفاتر الورّاق» لجلال برجس

ثقافة 2021/06/28
...

 غسان حسن محمد
لعل الرواية هي النوع الأكثر احتفاءً بعلوم العصر ومتبنياته الفلسفية والفكرية والثقافية وتراثياته المادية والمعنوية، الفضاء الأرحب لميدان تتسع فيه بنيات الجمال والفن، واقعية كانت أم متخيلة، على أنَّ صرعة العصر قد تبدت على يد «ديستويفسكي» بنقلة نوعية حملت الرواية من كلاسيكيتها وأحادية اللغة والأسلوب والثيمة والمنظور الى أفق تعدد الأصوات أو الرواية الحوارية كما يصفها «ميخائيل باختين».
لتحفل بأحكام القيمة على مستوى التعدد الفكري، والموضوعي، والأسلوبي، واللغوي، والرؤيوي، أُزيحت سلطة الراوي العليم المطلق لصالح رواة متعددين وشخصيات رئيسة وفرعية تتبنى خطاباتها بألسنتها الصراح المعبرة عن استقلاليتها ضمن النسيج السردي للرواية وآفاقها الكرنفالية التي تجتمع فيها الأضداد وهي تؤدي وظائفيتها الدلالية والجمالية ضمن النسق الآيديولوجي الذي يحتكم إليه خطاب السرد.
تعدد الأصوات الموسيقية ضمن سيمفونية واحدة، ذلك ما أوحى لميخائيل باختين النظر بتفحصٍ وإمعان الى ما حفلت به أعمال ديستويفسكي في «الجريمة والعقاب» و«الأخوة كارامازوف» من تعددية للأجناس في النسيج الروائي، حكايات وأمثال وخرافة وأساطير وبناءات مركبة من هجائيات وسخرية وتناصات تراثية وإحالات نفسية ودرامية حفلت بها الذات الإنسانية، إنَّها الحياة بتنوعها وتعدد مساراتها وحوادثها ومرويَّاتها التاريخية. اختفت المنولوجية لتحل محلها البوليفونية..، غادرت أُحادية الفكرة وانبثقت الديالوجية وديمقراطية الفكرة والحوارات ونمو الشخصيات.
«دفاتر الورّاق» الرواية الحائزة جائزة البوكر 2021 لمؤلفها «جلال برجس» اتخذت الرواية البوليفونية باشتراطاتها وعناصرها كجنس أُسست عليه الرواية، فواعلها ومتبنياتها. حفلت الرواية بفكرة الإنسان المستلب وجودياً، المقهور حياتياً وهو يعاني الأزمات الاجتماعية والاقتصادية بفعل الآيدولوجيا التي هجرّت أسرة بطل الرواية «إبراهيم الورّاق» من موطنه «مادبا».. يستعرض بطل الرواية سيرة الجد الأكبر المزارع «محمد الشموسي» الذي رهن أرضه كيما يصبح الابن «جاد الله» طبيباً بعدما أوفده لـ «موسكو»، الابن الذي اختار الفلسفة على الطب.. تعرض لأزمة اعتقال من قبل الحكومة الروسية إتهمته فيها بالمؤامرة وهو المعتنق لفكرة اليسار..، عاد منكسرا الى قريته.. الأب أُصيب بصدمةٍ كبيرةٍ بعدما عرف أنَّ ابنه لم يدرس الطب.. تتوالى الأحداث على لسان شخصيات الرواية التي لم تتعدَ الخمس شخصيات تؤدي أدواراً رئيسة، رسمت بدقة عالية وبلغة موجزة مبتسرة..، كانت الشخصيات تتحرك بحرية كافية تدلو بدلوها بعيداً عن سلطة الراوي العليم.. لها خطاباتها المائزة وإنْ كانت تنصّب في أغلبها ضمن بوتقة السلب والقهر والظلم الاجتماعي والآيدولوجي.. لكنها تمتلك رمزياتها وأقنعتها المستقلة عن سلطة رسم المسارات المحددة المقيدة لانفعالاتها وتأثيراتها. «ابراهيم الورّاق» الشخصية الرئيسة في الرواية والذي يملك «كشك» لبيع الكتب الأدبية والفنية والعلمية..، قارئ نهم لتلك الكتب علّمته المهنة أن يصنعَ الموجزات لفحوى كل كتاب، يستعرضها أمام الزبائن.
«ليلى» الفتاة غير الشرعية التي غادرت الملجأ بعدما تعرضت لفعل اغتصاب من قبل مديرة الملجأ.. غادرت الملجأ لتجتمع في بيت مهجور مع زملاء لها قد فرَّوا من الملجأ لتبدأ متواليات العيش المرّ لها وهي تبيع المناديل في أزقة عَمَّان.. شخصية تمثل المهمشين والمنبوذين من قبل مجتمعٍ لايُرحم. المرحلة المفصلية التي عَطفت بمقصديات الرواية تأتي عندما يصادر كشك الوراق لصالح متنفذ يروم بناء «مول تجاري» عوضاً عن الكشك.
يبدأ الصوت الداخلي يُحدّث «ابراهيم الوراق» الذي بدأ يشك بانتفاخ بطنه..، إبراهيم يراجع طبيبا نفسياً وتبدأ بينهما حواريات عبر البريد الاليكتروني وكلاهما يعاني من «عقدة اوديب».. إبراهيم الذي رأى أباه بعده الشخصية السلبية والمستلبة والذي يعاني نوبات غضب هستيرية غير مسيطر عليها، ينتحر أمامه، يطرد صاحب البيت «ابراهيم» من بيته بداعي عدم دفع بدل إيجار السكن..، يغادر ابراهيم البيت بعد أن باع مقتنياته.. ويتجه الى البحر كيما ينهي حياته بعد أن ضاقت به السبل.
يصادف على الجسر المؤدي الى البحر امرأة يقترب منها.. تحيي فيه شعلة الحياة يتراجع عن نيته في الموت والعدم.. تغادر المرأة مسرعة.. ابراهيم ينظر الى قلادتها التي تحمل الحرف «ن» يجد في مكانها دفتر مذكرات يبدأ بقراءة يوميات المرأة التي تحفل بالكثير من الحكايات..، تتسلل شرارة الحب الى قلب ابراهيم..، ابراهيم الذي لايعرف اسم المرأة.. يبدأ رحلة بحث مضنية عن تلك المرأة ليعثر اخيراً على صفحتها في «الفيسبوك» لتبدأ حكاية جديدة في سيرة ابراهيم الملتبسة، غير أنَّ صوت الآخر يتمكن من السيطرة على ابراهيم.. يرسم له مخططات لسرقة البنوك بعد أنْ يتقمص شخصيات روائية كبطل ديستويفسكي في «الجريمة والعقاب» وشخصية دكتور جيفاكو.. لباسترناك.. واخيراً شخصية أحمد عبد الجواد في رواية  «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ..، المجتمع يرسم صوراً بطولية للّص المُقنَّع، فهو يُطعمُ الفقراء ويساعدهم كما رسمه المخيال الشعبي.. تلحق بالمُقنّع جرائم قتل لأناس سيئين.. يستثمر الراوي شخصيات روائية عالمية وينزلها الى أرض الواقع بتوليفة متقنة مقنعة لقارئ يبحث عن الجِدة في جسد الرواية ومعناها.. تنتهي الرواية بالقبض على البطل.. وانتهاء حلمه بصنع مستقبل أفضل للمقهورين.. «ابرهيم الوراق» يُودعُ المصحة العقلية.
«ناردا» تأتي لزيارته كل اسبوع.. دفتره الاثير ممتلئ بالحكايات وهو يقول في نهاية المطاف: (سأسلّمها هذا الدفتر، مثلما سلّمتها باقي الدفاتر. 
لكني لستُ متأكداً من قناعتي بتسليمها دفتر دونت فيه كوابيس، رأيت خلالها والدي يدفع بنفسه الكرسي، وابن أنيسة يقتل عماد الأحمر، ويوسف السمّاك يَقتلُ اياد نبيل، ورأيت ليلى تقتل رناد محمود.. لن افعل ذلك لأن علينا الصمت إذا ما اختلط الوهم بالحقيقة. رواية تجري أحداثها في برزخ فاصل بين الحقيقة والوهم، أجاد تصديرها جلال 
برجس.