علي حنون العقابي .. الشاعر يعوذ بالعشق من المكائد

ثقافة 2021/06/29
...

  وجدان عبد العزيز
  نقف عند ديوان (أعوذ بعشقك من المكائد) للشاعر علي العقابي الصادر عن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق/ 2021، لنجد انفسنا أمام عمق شعري يأخذنا لأغواره السحيقة، والى لججه وأمواج تناصاته الكثيرة، والتي كانت بمثابة الدلالات العميقة في الرسو بسفينته عند المعنى، حيث أرسو أنا، لاسيما والشاعر يجول في معناه بين الغياب والحضور، غياب الحاضر واشكالية الحروب والعداوات اللا طائلة منها في مسارات الزمن الحاضر، وحضور الماضي بعمق الحضارة ودلالة الحياة، رغم أنه مثقل أيضا بالحزن والفقدانات نتيجة استهدافه بغزوات الاعداء، الا انه شكّل حضورا صار سندا للشاعر وبحثه عن المعنى.
فكان هذا المسعى من الشاعر، بمثابة حبل النجاة لي أنا المتلقي، الذي أكاد أغرق في لجة البحث عن مسعى الشاعر في الحضور وسط الغياب، وكان الهدف توحيد الاتجاهات، لأجل ان يكون الفعل الإنساني مندمجا ببعضه لصالح الإنسان وبحثه عن الحقيقة، فالشاعر العقابي لن يضع مفردات الهروب من الحاضر الى الماضي والبكاء على المجد، انما بقي في الحاضر يقاوم ولكنه لن يترك جبال الماضي الراسيات في العمق الانساني. 
فكان ابنا بارا لأبيه، وفي الوقت نفسه يحاول بناء مجده الحاضر، يقول د.إبراهيم السامرائي عن اللغة انها: (مصفاة ومرمزة فلا تسمح للشاعر باستخدام اللفظ، إلا أن يكون هو اللفظ، الذي يحمل اكبر طاقة من الفعالية في السياق)، يقول الشاعر
العقابي:
(مرّتْ علينا الليالي السودُ قبلَ طلوعِ الشيبِ/ فما استبدلنا الوحشةَ بأسمال الغريبِ/ إنّما ورثنا الحزنَ الشفيفَ حيثما هبّتْ أغانينا).
هنا المحطة الأولى التي غرزها الشاعر في سياج السياق الشعري، فالشاعر رغم الليالي السود ما استعان بأسمال الغريب وبقي يغني، أي انه يطلب الحياة هو بنفسه: (لا نهدأُ أبداً/ لا نستريحُ من غسلِ الخطايا/ لا نلينُ حتى يكتملَ الجمالُ/ نزعزع المحظورَ عن القلبِ ونغمره بالأوراقِ والتراجمِ/ علّنا نستعيد فكرةً من حانةِ أبي نواس).
إذن اكتمال الرؤية لدى الشاعر باكتمال الحضور، مستعينا بالماضي، اي بحانة ابي نواس، حيث بلغ الخمر لدى هذا الشاعر مرتبة كبيرة من التعظيم، واستطاع بشعره أن يخلق عالماً يجسّد من خلاله طاقته الروحية والإبداعية بنظرة عميقة في الحياة
والوجود. 
فكانت قصائده مرآة يرى من خلالها تحولات مجتمعه وتحوّلات العالم من حوله، كما جعلها وسيلة لثورته على أعراف وتقاليد بيئته ومجتمعه، فكان شاعرا وصاحب موقف من الحياة، وعقلية متزنة، اي انه لم يكن متصعلكا، فكان اختيار الشاعر العقابي للتناص مع هذا الشاعر يصب في السياق الذي سار عليه العقابي، بما يحمل من ثورة على قيود الماضي للدخول بسلاح تصفية الحاضر من وجع الهزيمة.. يقول الشاعر: (نزعزع المحظورَ عن القلبِ ونغمره بالأوراقِ والتراجمِ/ علّنا نستعيد فكرةً من حانةِ أبي نواس/ أو ومضةً تركها النفري على قارعةِ الطريقِ/ ندورُ في الأفلاكِ مع ابنِ عربي ونصعدُ والحلاج إلى أعلى الشطحاتِ/ لم نمكثْ طويلاً في البحثِ عن البحرِ/ فقد سرقتنا مناراتُ جان بيرس لتلقينا في جحيمِ دانتي/ فرأينا أحبّتنا يخرجونَ من الكتبِ والرفوفِ/ يشاركوننا لذّةَ الكأسِ على مائدةٍ في ساحةِ
الأندلس).
إذن ديدن الشاعر العقابي ليس الماضي، وليس الحاضر، إنما أخذ من النفري ومن ابن عربي، ومن الحلاج، ولم يغض الطرف عن جان بيرس، او جحيم دانتي، هذه الحرية التي منحها لنفسه، القصد منها مسك العصا من المنتصف، لصناعة جمالية خاصة. 
والحقيقة ان الشاعر العقابي كان يتحرك بقصائد ديوانه (أعوذ بعشقك من المكائد) بقصدية واضحة لصناعة سياق شعري حديث، يمتح من الماضي نفحات الجمال وقوة المعنى: (لنا أقمارٌ نحرسُها في بغدادَ حتى ساعةَ الغسقِ/ فلا تسأل كيف بنينا أحلامَنا فوق الماءِ/ وبأيّةِ صلصلةٍ رسمنا دروبَ الارتقاءِ لذلك النجم/ صعدنا كتفَ الغيمِ حتى نقرأ لغةَ الوصولِ إلى آيةِ الفتحِ).
وكأني به يقول نحن الذين أدركنا لغة الطين والماء، حيث (صعدنا كتفَ الغيمِ حتى نقرأ لغةَ الوصولِ إلى آيةِ الفتحِ)، فكان فتح الحضارات الاولى لنا، ونحن نرسم احلامنا فوق الماء. فالماضي لنا بدالة الاخذ منه لأجل صناعة الحاضر من اجل مستقبل يليق بنا، ثم يقول: (لكن لم نفلحْ في الوصولِ لآخرِ رشفةٍ من ثمالةِ الكأسِ/ إذ تمَّ اختطافُ مشعلنا من بينِ ثنايا الجحافلِ/ فجلسنا جوارَ شتلةٍ قربَ الفراتِ نجذبُ الأنفاسَ/ نتموّجُ داخلَ همهمةِ الغيابِ المرِّ/ نعايشُ الحيفَ في صورِ الماضي بعد هدوءِ العاصفةِ). 
يقرّ الشاعر العقابي بالهزيمة، لكنه يجعلها كبوة لأجل النهوض، ومن ثم الخروج من الغياب الى الحضور، أي بمعنى (فصعدنا بأوجاعِنا إلى أعلى المناراتِ/ نحن الذين لا نملكُ وسطَ هذا الضجيجِ غيرَ الأغاني/ كنّا نتهيّأ دائماً للدخولِ لبوابةِ الصحوِ). 
فكل الوجع لا يمنعنا من الجمال بدلالة الاغاني، لأننا (كنّا نتهيّأ دائماً للدخولِ لبوابةِ الصحوِ)، لأننا (شربنا من رافديكَ بكلِّ شراهةٍ/ حتى توحّدنا فيك أمامَ واجهةِ الكونِ/ فهل أتعبتكَ الحروبُ؟).
وبطبيعة الحال لا يتعب الوطن العراق من الاوجاع، كونه وطنا حيا يملك ماضيا مشرقا، وحاضرا اكثر إشراقا، والمستقبل سيكون نتيجة حميدة تنبع من هذا الاشراق.
وبهذه اللغة يثبت الشاعر العقابي رؤيته، أن العراق بلد الحضارات حاضر، رغم كل الغيابات التي حاول الاعداء بخناجرهم وغطرسة غدرهم، وما يحملون من الحقد، الا انه هو المختار لهذا التعب، وكل مرة يتوضأ بالدم ويصلي، وينهض من جديد كالعنقاء.