إنصات حميم للتجربة الشعريَّة

ثقافة 2021/06/30
...

 جمال العتابي
 
هل يصح إخضاع تجربة موفق محمد الشعرية لمنطق نقدي محدد يؤدي إلى تبسيط التجربة بكل تجلياتها وعنفوانها؟، وما الذي يقوله نقاد الشعر عن شكل القصيدة واتجاهاتها، ومضامينها لدى موفق بعد نصف قرن من الزمن  مثلا؟. 
بتقديري إن بإمكاننا التكهن بأحكام نقاد
 المستقبل. 
قد يقولون إن شاعر الطليعة (ابن ابو خمرة)، كان نزاعاً من أعماقه الى الحرية، وكان من أصحاب الشجاعة الفنية، ومن أهل توق روحي عظيم ذي صوت ارهص بالأحداث واكتشف الفاجع في الحياة العراقية، ودلّ عليه، وحذّر منه، ورفض، وغضب، وتمرد، ولا شك ان خريطة القرن ستظهر ارتفاعاً في نبرة التوتر، وحدّة الصراع الذي اعترى شاعر الستينات، وسوف تشير إلى انهماك مخلص في البحث عن هوية جديدة في الشعر
والحياة.
إن ما يشكل قصيدة موفق عند كتابتها،  هو أنفاس شاعرها التي تتلاحق أو تتباطأ طبقاً لانفعالاته أثناء عملية الإبداع، ومن ثم فإن القصيدة لديه تكوين سمعي يقوله الشاعر لنفسه مع لهثات أنفاسه، وهي بمثابة اعتراف مخلص يقدمه الشاعر بما يعتمل في صدره، ويجيش في وجدانه، من دون اهتمام بالأناقة اللفظية، بقدر الاهتمام بصدق التعبير، وبطبيعة الحال، تخضع عملية تقويم هذه الاحتمالات لاستجابة المتلقي، وقدراته النقدية، فضلا عن إمكانات اللغة ذاتها، المشحونة بالتحدي والتمرد في مواجهة عصر كامل مضطرب بين اتجاهات متضادة، ناء بأعاصير الحروب
والمآسي.
هذه التجربة الشعرية، أعادني الكاتب احمد الناجي لمراجعتها من جديد، بعد قراءة مؤلفه الجديد (هذا هو موفق محمد) الصادر عام 2021 عن داري سما، والفرات للنشر والطباعة الذي توزع بين أربعة فصول، جاء الأول منها إلى النشأة الأولى للشاعر، منذ الولادة حتى زمن الحصار
 1948 - 1990.
وتناول الفصل الثاني، إيقاعات التمرد، في زمن الكلام غير المباح، واهتم الفصل الثالث بالفوران الشعري، والمواقف الجريئة للشاعر 2003 - 2020، واعتنى الفصل الأخير بالأنشطة والأصداء، في مدارات
الشعر.
 انطلق الباحث أحمد الناجي في الكتابة وفق منهجية واضحة المقاصد والغايات، من خلال دراسة النص الشعري، وما يدور حوله، متتبعاً التفصيلات الدقيقة في حياة المبدع، ووجد ما يعينه في الوصول الى عمق التجربة الحياتية لموفق، فهو ابن مدينته المثقلة بالحزن والبكاء، وشربا من مياه شط الحلة، ثملا معاً، وتقاسما خبز الحياة، وطافا في محلتي الوردية، والطاق 
كمغنين.
فاكتظت قصائد موفق بذاكرة الأمكنة التي عاش او تجول فيها، وحفلت نصوصه الشعرية بمعطى وفير على عدّة مستويات رمزية
ووجودية. 
 عمد الناجي الى تحقيق غاياته الاساسية في تدوين المادة التاريخية وفق تسلسل أحداثها الزمني، نحو امتلاء دلالات المحور الأساس لسردية ذات طابع حكائي، محمّلة بمادة أدبية-
تاريخية. 
في الفصل الأول من البحث تناول الكاتب، إرهاصات الموهبة وبواكير الخطى في دروب الإبداع، والمتابعة التحليلية لظاهرة الاتكاء على اللغة المحكية الغزيرة، الى جانب اللغة الفصحى، ودرس الناجي قصائد موفق كصرخات مدوية في خضم متوالية المحن والمكابدات الناجمة عن غياب الابن الأكبر
(عدي). 
كان موفق في قمة التحدي للديكتاتورية، إذ قال ما صعب على الآخرين قوله، ونطق بلسان فصيح، وعبارة صريحة، مثل كائن تلفحه النيران، وتنبت في جسده السكاكين، في عصر مفتون بالقتل، والدفن في مقابر
جماعية. 
             
إن المصائد مرّة لا تحتفي
             إلا بهذا الفتى المسكون بالألم
             قد بات ديدنها وصاحب قوتها
             فصيرته لنا رمزاً من العدم
 
واستعرض الناجي المنجز الشعري المبهر لموفق، الحافل بالإنتاج الإبداعي على مدى أكثر من نصف قرن، بقصائد معبّرة عن محنة الوطن، وابنائه الممتحنين، وترميم الشروخ النافذة في
جسده. 
موفق محمد يرى الواقع بما هو واقع، لا يخدع نفسه بزخرف الخيال، فلا هو يرى نفسه بالبطل الفذ، ولا يسرد لنا أحداثا خارقة، ولا يرحل بنا الى أجواء مصطنعة، بلغة ميسرة، قريبة المنال، تكاد تكون لغة الحياة اليومية، غير انها صادقة عميقة التأثير، يذهب بها نحو أطر غير مألوفة، وفي مجال علاقات غير متوقعة:
 
              لقد رتبت عش البوم في رأسي منذ
             أن تيقنت بأن قلبي لا يصلح إلا لميت واحد
             فمن للجالس في ثقب الإبرة
             قلت: دع الخيط يمرّ
 
مرّ الخيط وصار حبالا لا تأكل إلا من حبل وريدي
 موفق محمد يكتب مأساة الفرد في عالم تجتاحه النوائب، يلجأ إلى تكثيف الشحنات الشعرية بلغة عامية، من دون تقيد بأحكام اللغة، لخلق حالة الدهشة، حين تعجز الفصحى من الوصول إلى أعماق المشاعر الإنسانية، وليتمكن من خلالها أن يعرّي الواقع من أقنعته الزائفة، وان يصمد له، ويتحداه وجهاً لوجه. 
 اعتمد الناجي سبلا متعددة في عمليات التحري والبحث، والتحليل، وهي تشكل وحدها سبلاً جامعة من حيث معالجة الجوانب الفنية في قصيدة موفق محمد، والوقوف عند تجربته الحياتية بمدى أوضح، وهو إذ يقدم لنا هذا الصوت الهادر الذي يشكل عالماً متفرداً في كتابة الشعر، إنما يحقق حضوره كمبدع دائب، واضح الجملة، متماسك العبارة، شديد الالتصاق بطبيعة الوعي الذي يشكله المؤلف، بكل نباهة وحرص، على إيقاظ وعي المتلقي نحو معطيات الإبداع في شعرية
موفق. 
وإن كانت ثمة ملاحظة لي، فهي تتعلق بعنوان الكتاب (هذا هو موفق محمد)، بما يتضمن من إحالة لقصيدة أدونيس (هذا هو اسمي)، فأعتقد انه مكرر ومألوف، كنت أتطلع الى صياغة أخرى معبّرة، أكثر شاعرية، تتضمن إنصاتا حميماً في استرجاع التجربة الأكثر ثراءً وغنى في المشهد الشعري العراقي، وملاحظة أخرى، أصحح فيها ما أشير فيها إلى مجلة الكلمة، انها نشرت اول مرة قصيدة (الكوميديا العراقية)، في حين ان النشر الاول للقصيدة، كان في مجلة صوت
 الطلبة.