ملامح الديستوبيا في عرض مسرحية الجزيرة الخرساء

ثقافة 2021/07/01
...

 حيدر عبدالله الشطري
يعد التأسيس المكاني في النص المسرحي واحدا من أهم أساسيات بنائه وهو القاعدة التي يستند عليها في بناء علاقاته بين عناصره وفق سياقات فنية جمالية ودلالية تسعى الى تشكيل خطاب النص، وبعد ذلك يتأسس العرض المسرحي وفق قراءة مشهدية خاصة له تعتمد على تأثيث هذا المكان، إذ تظهر ملامحه ومكوناته واضحة للعيان وبشكل تجسيدي يسعى الى رسم خصوصياته ومميزاته، ومن ثم يبتني قاعدة ثرية له تساعد المتلقي على التواصل مع العرض من خلال محاولة البحث عن المعاني في الاشارات التي يشير اليها العرض.
وفي عرض مسرحية (الجزيرة الخرساء) التي قدمتها فرقة عيون الفن في محافظة النجف ضمن عروض مهرجان المسرح الشبابي في العراق.. سعى مخرج العرض الى تحديد ملامح مكانه (الجزيرة) والتي اراد ان تكون له ملعباً تتبارى فيه الشخصيات وتقديم عرض مسرحي قائم على الصراع بينها والتي تعيش في الجزيرة وتسعى الى الخلاص وبحثها الدائم والدائب في ذلك. ولكنها لم تكن اي مدينة او بملامح عادية وتقليدية انها مدينة غير فاضلة تسودها الفوضى والخراب والفقر والمرض فهي مثال على كثير من المدن التي نعرفها ونعيش فيها ونعاني من القحط الذي يحل فيها، والذي ترك ملامحه على سلوكيات شخصياتها حتى باتت تهوم في مكان من العدم وتحاول البحث عن الخلاص بطرق يائسة وربما هي بعيدة كل البعد عن ايجاد هذه الطرق.
 
النص:
استند النص في تحديد ملامح خطابه الى تأكيد شكل المدينة الفاسدة (الديستوبيا) بكل ما يحمله من معاني يكرس لدوامة من القهر والانهزام تعيش في أتونها كل الشخصيات الاربعة المتواجدة في هذه الجزيرة، فهي جزيرة أشباح وأرواح شريرة وأنهم (أي الشخصيات) يختلفون في الاتفاق على تسميتها، وهم بذلك يصورون الاختلاف في طريقة تعاملهم معها ومحاولة التخلص من براثنها.
هي جزيرة اجتهد الكاتب في رسم صورة حية لها.. فهي مكان للمياه الاسنة تقبع في عالمٍ سفلي ربما وسط المجاري ولكنهم لا يعرفون كيفية الخلاص من ذلك لاختلاف تصوراتهم عن المشكلة وكيفية تفاديها، فهم يشتركون في الرغبة في تغيير ملامح هذه المدينة (الجزيرة) لكنهم يختلفون في الطريقة لمجابهة ذلك ويشتركون ايضا في الخوف من مصيرهم المجهول في هذه الجزيرة.وهذا ما أسس لاقتراح شكل غنيٍ لصراع محتدم بين هذه الشخصيات فالاختلاف هو واحد من أهم ما يعتمد عليه النص في بنائه الدرامي.ثم يذهب كاتب النص بعيداً إذ يرسم لنا صورة أخرى من صور المعاناة التي تعاني منها الشخصيات، وهي صورة التضحيات الجسام التي يقدمونها دفاعا عن هذه الجزيرة التي لا تستحق منهم ذلك، فهي جزيرة خراب وفوضى ولا أمان، وهي مدينة ترسم نظامها الاجتماعي وفق طائفية مقيتة تتحكم في بناء علاقات ابنائها.. ويسعى الكاتب اخيرا إلى أسلبة شخصياته وتحويلها الى ذوات مستلبة لا تملك أكثر من الهوس في الحاجة الى الخلاص والوقوع تحت نير الانتظار المرير وانهم لا يملكون أكثر من ذلك في تصوير عجزهم واستكانتهم.
 
العرض:  
لم يذهب صانعو العرض بعيداً عن مقترحات النص في تصوير ملامح مدينتهم (الجزيرة الخرساء) فقد أسس المخرج لفضاء فقير شبه خالٍ إلا من شكل أيقوني (صورة) لإطار متداخل مع اطارات ثلاثة أخرى وجعلها (باك راوند) في خلفية الخشبة، وكذلك استخدام (أربع دكات) استعان بها كثيرا في التعبير عن حالات الشخصيات من خلال التعدد في استخداماتها التعبيرية في كل مرة. وهو بذلك يكرس لشكل هذ المدينة التي يصيبها القحط إلا من شخصيات تعوم في فضاءاتها الخالية.
ركز مخرج العرض على تجسيد الكثير من الافعال المسرحية على خشبة العرض بطرق تعبيرية متعددة، ولم يعتمد على الاداء التقليدي للممثلين فقدم الكثير من اللوحات التي تتشكل بأجساد الممثلين والتي تعبر عن مدى التيه الذي يعيشون فيه في هذه الجزيرة محاولا تجاوز البساطة في ترجمة هذه الافعال فكان يلجأ في كل مرة الى اقتراح شكل للمشهد يختلف عن الذي سبقه، وقد استعان في بعض المشاهد بتقديم رقصات تعبيرية ربما كانت بحاجة الى عناية أكثر في التدريب عليها وتنفيذها.. وقد اجتهد المخرج في معالجاته الاخراجية الى تحقيق خصوصية تقديمية ترتقي بالعرض الى مثابات التنوع والتعدد وعدم اللجوء الى أسلوب واحد وطريقة واحدة في التقديم.
 
التمثيل:
اعتمد العرض على جهود أربعة ممثلين في تقديم شخصياته الاربع وتباينت بينهم الفروق الفردية في مستوى الاداء وتشابهت في اختيار (الكاركتر) لكل منهم حتى بدت في كثير من الاحيان ان كل تلك الشخصيات ماهي الا تشظيات لشخصية واحدة في محمولاتها الفكرية وجوانبها التقديمية، لكنهم اجتمعوا جميعا في تشكيل (بانوراما) ادائية جماعية استندت الى استنطاق الافعال الداخلية للممثلين والتعبير عن دواخل شخصياتهم بصدق كبير. وبهذا كان الاداء التمثيلي في هذا العرض واحدا من أهم أسباب تأكيد خصوصيته وتكريس معانيه.
 
مكملات العرض:
حاول مخرج العرض في كثير من الحالات على الاعتماد على الاغنية في استغلال المؤثرات السمعية والاستفادة منها في تحديد معالجاته الفنية، وهذا ما جعل العرض لا يتسم بِسِمَةٍ محلية فقط وذلك من خلال تعدد استخدام هذه الاغاني التي لا تمثل بيئة معينة بذاتها.وكذلك على الازياء والتي كانت بشكل واحد ومتشابه بين جميع الشخصيات وهذا ما أكد تشابه اشكالها وطروحاتها ودلالاتها. من كل ما تقدم نخلص الى ان عرض (الجزيرة الخرساء) كان عرضا ناطقا بكل اللغات ومعبراً عن طروحات شبابية تسعى دوما الى تأكيد خصوصياتها من خلال طبيعة طرحها وأساليبها طريقة تقديمها.