في التّأمل وأشياء أخرى

ثقافة 2021/07/01
...

 رعـد فاضل
 
* المختلف كئيب لا لأنه وحيد فقط، ولكن لأنه غالباً ما يتعب من كثاريّة فردانيّته. فيه على ما يبدو بقايا حنين إلى أن يعود مؤتلفاً، وما استمرار هذا التعب واشتداده إلا بسبب تحاشيه السقوط في دعة المؤتلف، أي مقاومته لإغراءات هذا الحنين. المختلف مكبوت لأنه منعزل، وهنا تكمن سعادته وجحيمه وخطورته في آن معاً. من مكمنه هذا يقلب النظر في الأشياء بأريحيّة المتأمِّل الهانئ بهذه العزلة مترامية
 الأطراف.
* أن يظلّ ما يُجهَل مناصَباً العداءَ هكذا، يعني أنّ المناصبَينَ هذه العداءاتِ عبر التاريخ فعالون منتِجون.
* الموغل الطاعن في العزلة طفل مُمَهْمه خارجَها. العيش في العزلة طمأنينة- كما الحياة في الكتابة- وإن كانت موحشة أحياناً.
* حين تزعم، أو حتى تظنّ أنك قلت وكتبت كل ما عندك يعني أنه لم يبق لديك شيء لتقوله أو لتكتبه. مَن يظل يقرأ ويفكّر ويكتب بشغفِ وعنفوان شباب القراءة والتفكير والكتابة لا يندثر لأنه لا يُنسى، لأنه يتجدد.                                     
* ما من ماض كان في زمنه خلاقاً يسخر من حاضره إلا إذا كان هذا الحاضر تَـبَعاً مقلداً له. إن لم يفكر كل مستقبَل هكذا سيكون هو الآخر موضع سخرية من كل حاضر خلاق.
* أليست الفلسفة تساؤلا وتقصياً واستكناهاً للأشياء وليس من مهامها الجوهرية التغيير، لأن مسؤولية التغيير من مهامّ الفكر والمفكرين؛ فلماذا يطلب من كلّ كتابة أدبيّة متشربة بالتفلسف أن تكون عضويّة بهذا المعنى الاجتماعيّ والايديولوجي؟ 
* متى ما توقف الخلط ما بين (نرسيسيّة) الكاتب وبين (ذاتيّته)، نتوقّف عن التساؤل: كيف يمكن تحقيق الكثاريّة دون تعدد ذاتيّات الكاتب في أثناء الكتابة، لا بل إنّ كل ذات من ذاتيّاته قد لا تشاكل ذاتاً أخرى، وأقرب ما يمكن الاحالة إليه ذاتيّات بيسوا الكِتابيّة ونديديهِ الذين تجاوزوا المئتي نديداً حتى تقلصوا إلى ثلاثة، بأسماء مختلقة متنوّعة، ولكلّ نديدٍ - ذات أسلوبُه وأفكاره اللذان لا علاقة لهما بسائر الأنداد (الذوات)
 الأخَر؟
* كتب جيل دولوز: ((في فترة تحرير باريس، ظللنا سجيني تاريخ الفلسفة. كنا نكتفي باقتحام هيجل وهوسرل وهايدجر. كنا ككلاب صغيرة تتهافت وراء نزعة سوكلائيّة - يعني مدرسيّة، أو فلسفة المدرسة- أدهى من تلك التي عرفتها القرون الوسطى)). لو سلطنا الآن مثل هذا الاعتراف الجريء من أربعينيّات القرن الماضي، على فلسفة حياتنا العربيّة فكريّاً وثقافيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً، إن كانت لدينا فلسفة، ترى في أيّ مخيَّس مدرسيّ وثوقيّ عشنا ولا نزال إلى أجل مجهول نعيش؟
* الثياب الفضفاضة للجسد الطامح إلى حركة أكبرَ، فضاءُ حريّة واسعٌ لأنه مريح ويمكن من خلال هذه الحريّة الفائضة عن حاجة جغرافيا الجسد أن نعرف طبيعة الفكر الذي يتحلّى به لابسُ هذه الثياب حتّى إن لم يكن معروفاً بالنسبة إلينا، ولا علاقة للأمر هنا بحجم الجسد، ذلك أننا كثيراً ما نرى أجساداً واسعة بملابس ضيّقة، وأخرَ ضيقة بملابس مسترخية سابغة. الأمر غالباً ما يتعلق بتركيبة لابِسي الضيق أو الفضفاض النفسيّة والثقافية. أليس في الواسع أريحيّة للتفكير، وفي الضّيِّق حبس له وتقييد؟ مع هذا هنالك من يرى العكس، وهذا أيضاً صحيح.
* هل يمكن مقارنة احتجاجات تشرين الأوّل العراقيّة 2019 بأحداث مايو 1968 الفرنسيّة واحتجاجاته، من جهة أنهما خلخلة للمفاهيم السياسيّة والاقتصاديّة والفكريّة والاجتماعيّة السائدة، ولكن من دون بديل نظريّ وموضوعيّ حقيقيّ ملموس؟ هذا التساؤل لا يصدر قطعيّاً عن أيّما نزعة تشكيكيّة، وإنّما للتنبيه إلى ما لتنظيم أفكار الاحتجاج نظريّاً من أهمية بالغة بعد أن عرفت المطالب، فضلا عن أن يكون لهذه الاحتجاجات منظرون قادرون على البروز بوصفهم قيادات يتمتعون برؤية واضحة للأشياء، بديلة عن تلك السائدة المحتجّ عليها؟
* حياتنا الضئيلة تحدّها نومة من طرفيها، يقول شكسبير، ذلك لأنّ ((الناس نيام، إذا ماتوا انتبهوا)) كما يقول الحديث النبويّ. لا بد أن تكون الإحالات غير المقصودة حاذقة كمثل هذه الإحالة كما لو أنّ المحال إليه مختبئاً يهس في ثنايا المحال ولا يتكلم، كما لو أنه مكتوب بحبر سريّ لا لون له ولا رائحة، لا تظهِّر كتابتَه إلا حرارة
 القراءة.                                                                                                                          
* في أثناء التأمل يجب أن يتنفس المتأمِّل الهدوءَ بعمق، كي يتمكّن من الإمساك برأس خيط الصفاء، وحتى لا يفلت الخيط عليه أن يغمض عينيه لينعزل
تماماً.
* يتطيّر كاتبٌ صديق لي من كلمة (قَـدَر) ذلك أنه يعزوها تلقائيّاً على ما يبدو إلى أمرين: الأوّل أنّ لها في رأيه مرجعيّة روحيّة ودفعة كهنوتيّة، والثاني أنها تشي بما يعرف بالإلهام. إذا ما سلّمنا بأنها كذلك فعلا فماذا سنسمي كل تلك الدفعات القديمة الجديدة المنسقة المقصودة ولا شك من ما تعرف بـ (الحظ)، تلك التي طالما قرأناها في سِير شعراء وكتاب وفنانين، أتذكر الآن توصيفاً لتلك الدفعات من قِبل بروست ((الموهبة هي الحظ، وكثيرٌ من الجهد)).
* كل حاضر بالنسبة إلى كل كاتب فعال ما هو في الحقيقة إلا ميدان لتمارين معقدة وقاسية لخوض مباريات المستقبل. 
* إنّ المفاجأة والإدهاش الشعريين ما هما وفقاً لجاكوبسون إلا ((تولد اللا مُنتظَر من المنتظَر)) أي هما ((تشبّع بعنصر مفاجئ)) حسب ريفاتير. وعلى هذا كلما انخفضت درجة المفاجأة ارتفعت نسبة التوقع، أي انخفضت نسبة الشعرية مع انخفاض نسبة الإدهاش.