(بريد ذكريات) إيمّا رييس

ثقافة 2021/07/01
...

طالب عبد العزيز
 
لم أعثر في مخزون الجوجل العربي للرسامة والكاتبة (إيمّا رييس 1919 -2003) المولودة في كولومبيا، إلا على كتاب واحد اسمه (بريد الذكريات) كتبته على هيئة رسائل الى الناقد والمؤرخ الكولومبي خيرمان ارسينييغاس (1900 - 1999) توهم القارئ فيه، بين كونه رواية أو سيرة ذاتية. على طريقة كتاب اميركا اللاتينية في صنع رواية غرائبية، يندمج الوقائعيُّ فيها بالأسطوري، فقد عاشت الكاتبة حياةً غريبة في دير، ودونما انتماء لأب وأم ولا اسم حتى، في رحلة امتدت عشرين عاماً، هي الأشقى في ما قرأتُ، قبل أن تصل بوينس آيرس بالأرجنتين.
  أقنع خيرمان رييس بكتابة مذكراتها، فتراسلا سنوات طويلة، ثم انه فتن برسائلها، مما جعله يطلع صديقه (ماركيز) عليها خلال فترة السبعينات، الرسائل (الحياة) التي اذهلت ماركيز نفسه، لكنها غضبت على خيرمان بعد عِلمها باطلاع الاخير على رسائلها، فقاطعته عشرين عاماً، لأنه خرق الاتفاق الضمني بينهما، ولم تلتئم علاقتهما إلا في نهاية القرن الماضي. وفي باريس، حيث كانت إقامتها الاخيرة، كانت قد التقت سارتر ومورافيا وبازوليني وغيرهم، وذاعت شهرتها كرسامة احتضنت الكتاب والشعراء الكولومبيين، الذين أطلقوا عليها لقب الأم الكبيرة أو (ماما غراندي).  
 في الرواية (السيرة) توجيه واتهام صريح للكنيسة والرهبان، الذين جعلوا من حياة رييس وباقي البنات في الدير جحيماً، فهي تتحدث عن سلطة دينية مستبدة وقاهرة، جعلت من الكهنة والبابوات -باسم المسيح- أنموذجا للجحيم، الذي ينتظرهن، دونما تقريظ للفردوس المفترض، حتى انها تقول: (في الدير كنا نعرف عن الشيطان أكثر مما نعرفه عن الله). 
وفي طفولتها بالدير نرى تعلقا يائساً بصورة المنقذ (المخلص) بسبب ما كانت تعانيه من عذاب هناك، فقد امضت الساعات الطوال تتأمل السماء لعلها تراه، وتمنت لو أنها استطاعت تسلق واحدة من الاشجار الاكثر ارتفاعاً فهي ستكون متأكدة من امكانية رؤيته، وهنا تتحدث عن الاب الثاني، للمسيح (الأب الثري) إذ تلقت في الدير درساً ينسبه الى ثلاثة آباء، أحدهم الاب الثري، الذي في السماء، في اشارة الى العوز الذي عانت منه.
 في الرسالة الرابعة والعشرين تنقل رييس لنا واحدة من أبشع صور الحياة بالدير، إذ يتم تكليف البنات في الدير بنسج وتزيين بذلة جديدة للبابا، فتُكلّف كلُّ بنت بعمل قطعة منها، فهذه للمُلاءة وأخرى للياقة، وثالثة للقلنسوة، ومثلهن تعمل الاخريات، في عمل مضن، وشاق يصلن النهار فيه بالليل.. وحين يتأخرن بإنجاز ما طُلب منهن يعاقبن بمضاعفة الصلاة، والتسابيح، والركوع على الأرض، وحجب الطعام، وصناعة ثياب وصداري إضافية للكهنة والقاسوسة، تكفيراً عن ذنوبهن، ولأن أعمالاً كهذه شاقة ويستحيل تنفيذها، فقد كنَّ يُشْعرنَّ بوجوب القيام به في قابل الأيام، وهكذا، فهن في دَيْنٍ متصل، وسط شعور بالتقصير إلى الأبد تجاه الربَّ والمسيح.