المستشار الغبي

الصفحة الاخيرة 2021/07/03
...

جواد علي كسار
 
الخيزران بنت عطاء، عربية أصيلة من اليمن. هي زوجة  الخليفة العباسي المهدي، ووالدة الخليفتين الهادي والرشيد، وجدّة ثلاثة من الخلفاء هم الأمين والمأمون والمعتصم، توفيت ببغداد سنة 173هـ ودُفنت فيها؛ قد نزلت وفاتها عظيمة على ولدها هارون الرشيد، فخرج في جنازتها حافياً يمشي في التراب، وصلى عليها ونزل في قبرها.
مع ذلك لا يعنينا من أمرها التأريخ، بل واقعة حامت حول اسمها بين ابنها الرشيد ومستشار له، عجز المستشار عن إدراك كنهها، فصرخ بوجهه الرشيد: «يا غبي!» لكي تذهب هذه الصرخة مثلاً من بعده، للمستشار عندما يكون غبياً!
تفصيل الواقعة بحسب المسعودي في «مروج الذهب» نقلاً عن نديم الرشيد وأحد أقرب مقرّبيه ومستشاريه، إبراهيم بن المهدي، قال: كنتُ يوماً عند الرشيد، فإذا رسول عبد الله قد أتى، ومعه أطباق خيزران عليها مناديل، ومعه كتاب، فجعل الرشيد يقرأ الكتاب ويقول: برّه الله ووصله، فقال إبراهيم بن المهدي: يا أمير المؤمنين، من هذا الذي أطنبت في شكره حتى نُشركك في جميل شكره؟.
ردّ الرشيد: هذا عبد الله بن صالح. ثمّ كشف المنديل، فإذا أطباق بعضها فوق بعض، في أحدها فستق، وفي الآخر بندق، إلى غير ذلك من الفاكهة. قال إبراهيم: يا أمير المؤمنين، ما في هذا البرّ ما يستحقّ به هذا الدعاء، إلا أن يكون في الكتاب شيء قد خفي عليّ، فنبذ الرشيد إليه الكتاب، فإذا فيه: دخلت يا أمير بستاناً لي في داري عمّرته بنعمتك، وقد أينعت فواكهه، فأخذتُ من كلّ شيء، وصيّرته في أطباق «قضبان» ووجّهته إلى أمير المؤمنين، ليصل إليّ من بركة دعائه مثل ما وصل إليّ من نوافل برّه.
لم يفقه نديم الرشيد ومستشاره مغزى الكتاب، ولم يُدرك سبب إعجاب الرشيد به، فاستنكر عليه قائلاً: لا والله، ما في هذا الكتاب أيضاً، ما يستحقّ به هذا الدعاء والمديح! غضب الرشيد، حتى جرّح المستشار بكلام قاسٍ، وهو يقول: يا غبي، أما ترى كيف كنّى بـ«القضبان» عن «الخيزران» إعظاماً لأمّنا رحمها الله!.
مع ذلك، لا يعمل الذكاء دائماً لصالح المستشار، فكم مستشار مؤتمن دفع ثمن ذكائه وصدقه. وهذه هي محنة المستشار في الموازنة بين الذكاء والغباء، والصدق والمداهنة، وصدقَ شاعر البصرة بشار بن برد (ت: 168هـ) بقوله: (المشاور بين صواب يفوز بثمرته، أو خطأ يشارك في مكروهه)!.