محمد عطوان يطرح جدلاً في الأنظمة العراقيَّة

ثقافة 2021/07/03
...

  البصرة: صفاء ذياب
 
في محاضرة مثيرة للجدل قدّمها الدكتور محمد عطوان بعنوان (الجدل في ظل نظام طائفي)، طرح في بدايتها مفاتيح أساسية لأهم الخطوط التي نستطيع أن نفهم من خلالها أطر الدولة العراقية، مبيناً أن الدولة العراقية الحديثة دولة مصطنعة، أي جاء تاريخ انشائها بفعل رافعة خارجية. ومن ثمَّ فالمكونات العراقية التي أسهمت في أن تؤلّف الجسد الاجتماعي للجماعة العراقية وإن كانت تاريخياً جماعات عراقية، إلّا أنها لم تدرك معنى المواطنة في إطار دولة وضعية حديثة. لهذا نجد أن الجماعات العراقية لا تزال عالقة في شراك البنى التقليدية في العشيرة والطائفة.. وهذا من دون شك يتعارض مع إمكانية تكييف هذا السلوك في أطر مؤسسية حديثة، وأي خلط بين القديم والحديث يربك واقعية وعقلانية الدولة في تلمس اغراضها وأهدافها وغايتها.
وأضاف عطوان في هذه المحاضرة التي ألقيت ضمن فعاليات ملتقى جيكور في مقر الحزب الشيوعي العراقي، وقدّمها الباحث قاسم حنون، قد يبدو للوهلة الأولى أن الثمانية عشر عاماً من تجربة الحُكم المَحلِّي التي أعقبَت العام 2003 كشفت عن المقاصد الأيديولوجية للطائفية (أي أنها كشفت عن حقيقة ما يجري من تزييف للواقع). وقد يبدو أيضاً أنّه لم يبقَ أمام القوى الاجتماعية والسياسيةـ التي سعت للتحرّر من استعمال الطائفيةـ سوى التعديل على برامجها السياسية داخل هذا النوع من السُلطة المُعتلَّة التي خلطت ما بين الطائفي والسياسي وجعلت من هذا الخلط سلوكاً غرضياً لتعبئة الجماعات، وطريقاً لتمكين زعمائها من التسلّط لأطول مدة مُمكِنة.
لكن عطوان سعى للإجابة عن هذه التساؤلات، موضحاً أن الخطابُ الطائفي طرح لنا صورةً إيهامية كما لو أنّ وعياً فلسّفياً مادياً قد تشكّل، وحرَّض على ضرورة تقويض المبنى القديم، فأوهمنا بوجود خطاب جديد قادر على قلب المُعادَلة التضليلية السائدة إلى جَدل مادي وبرامج عمل سياسية مُمكِنة.. غير أنه في الواقع لا يَتحقَق أي تغيير وأي تقويض من الناحية العملية إلّا من خلال تَطوّر القوى الإنتاجية والعلاقات التي تقابلها، بما في ذلك الأشكال الأوسع التي يُمكِن لهذه العلاقات أن تتخذها.. فالوعي بخطورة الطائفية وحده الذي يسمح بتَطوّر الحياة البشرية. لكنّ الطائفيين هُنا، زعماءً وجماعات، بما هم عليه من انقسام وتمحور، لا يزالون يستجيبون لموروثاتهم السَردية الأيديولوجية الملحمية والطقوسية، ويميلون إلى إحيائها ضمن بنى جماعوية (أحزاب، مليشيات، مناسبات موسمية، ميديا... الخ)، كنمط تقليدي سائد من أنماط الاجتماع الناظمة للأفراد والجماعات.
ويمكن اختصار ما طرحه عطوان، أن الأهمُ في ما تطرحه الطائفيةُ لا يؤسِس لحركة صراع مادي في التاريخ، إنّما إدامة التشابك المصيري لأطراف تَتدافع في ضمن علاقة جدلية «زائفة». والمُكوِّنات الاجتماعية المُختلِفة والمتنازعة ليست مُكوِّنات طبقية صريحة، بل طائفية، والعلاقاتُ التي تُديرها الدولةُ علاقات ما بين طوائف تشتركُ في توازن يُديم حركة هذه الدولة. وأي اختلال لهذا التوازن اختلال للدولة نفسها. لذلك، برغم اختلاف بنيات العناصر المؤلِّفة للمبنى الطائفي فإنّها تُديمُ تماثلاً ثقافياً ومصالحياً في علاقاتها التضامنية فيه، بعضها مع البعض الآخَر (رجال دين، مُلاَك، وعّاظ، فلاحون، زعماء عشائر، أحزاب... الخ). ولا يكون الصراعُ بينها صراعاً على التباين في المحمولات الاقتصادية والفلسّفية والثقافية التي يدّخرها كُل مُكوِّن لنفسه، بل تمثيل فكري للاختلاف يوهم بحقيقته في الواقع.
موضحاً أن الصراع الذي يُمكِن تَصوّر حدوثه- بكيفية ما- هو تَدافع شكلي بين سرود داخل المبنى الطائفي العام فحسب.. وهو تَدافع لا يُحدِث جَدلاً مادياً، ولا ينقض البنية الطائفية نفسها، كما لا يُقوِّض العلاقات الناظمة لحركة الطوائف في ضمن مجال تجريدي عام. بمعنى أنّ الطبقة السائدة تطمئن إلى استقرار سيادتها المادية وثباتها عند درجة تسمح معها لنفسها بترَف الصراع، وبإمكانية انقسام «خصومها» إلى فئات متعارضة، لكنّ ما أنْ يقعَ التصادم العملي الذي تتعرض فيه الطبقة السائدة بكاملها للتهديد حتى يسقط هذا التعارض لمصلحة التماثل من تلقاء نفسه.
وينقل عطوان مقولة إدمون رباط: «تُعبِّر الصراعات الداخلية عن الطابع الجواني للحياة الخاصة بكُل طائفة والتي تشكّل مُجتمعها الخاص المغلق والمحدود». ما يعني أنّ الوجود الاجتماعي للطوائف هو وجودها السياسي بضمن صيغة سياسية معينة، ووجودها في حقل يسمى حقل الصراع الاجتماعي، لكنّ القوّة السياسية للطبقات والفئات الاجتماعية الشعبية تنتفي فاعليتها في هذا الحقل بفعل تمثيلها الطائفي؛ الأمر الذي يُؤمن بقاء القوّة السياسية لممثلي الطوائف. لذلك تتقابل القوى السياسية الطائفية في المشهد السياسي العراقي مُتماثلة، وتديم جَدلاً تجريدياً في ما بينها ضمن دوائر مغلقة فحسب. وعند هذه الحدود، على نحوِ التقريب، يرسفُ الجَدل في دوائر آمنة، لا متضاغنة، فلا معنى لحدوث انشقاقات شيعية- شيعية أو سنّية- سنّية. وهو مؤشر على تراجع المقدِرة على النقض السياسي بصيغته الاجتماعية المادية الرحبة. فتبدو حقيقة الصراع السياسي- الاجتماعي زائفة، طالما أن التنويعات الفرعية لكُل طائفة تنطلقُ من معطى أيديولوجي مرجعي واحد، وتتحرك سياسياً وفلسّفياً في ضوء المعطى نفسه.