الأنظمة الاستبداديَّة والقهر الاجتماعي قراءة في رواية مسرّات سود

ثقافة 2021/07/04
...

 حسن السلمان 
لا شك أن من يحدد طبيعة وشكل الرواية، هو موضوعها وخطابها ومناخاتها. فثمة رواية تاريخية استناداً إلى موضوعها التاريخي وملابساته، وثمة رواية بوليسية استناداً إلى موضوعها القائم على الجريمة والتحري والاثارة، وثمة رواية رومانسية استناداً إلى موضوعها القائم على المشاعر الوجدانية والاجواء العاطفية الحالمة، وثمة رواية سياسية، تقوم على مناقشة الأفكار والممارسات والتصورات التي تتبناها الأنظمة الحاكمة والكشف عن طبيعة حكمها ومساراته الإيديولوجية وفضحها سردياً.
 
خصوصاً تلك الأنظمة التي تتسم بالشمولية والاستبداد والقهر الاجتماعي ومايتعرض له افراد المجتمع الخارجين عن طوع مثل هكذا انظمة جائرة إلى عمليات تعذيب وتطهير وتدمير شخصي وصولاً إلى التعويق والتصفية الجسدية.. انطلاقاً مما تقدم، وعلى وجه التحديد مايخص الرواية السياسية، سنعاين رواية مسرات سود للناقد والروائي علي حسن الفواز، الصادرة عن 
دار الشؤون الثقافية العامة/ 2020. 
في هذه الرواية ذات الطابع السياسي الصرف، يكشف الفواز عن الممارسات والسلوكيات الوحشية/ الإجرامية التي تمارسها الانظمة الاستبدادية الحاكمة بحق شعوبها وفقاً لمنطلقاتها الإيديولوجية ذات الطابع التوتاليتاري القاضي بإلغاء الوجود الفردي وتمثيله وتحديد أبعاده الشخصية 
كما لو أن افراد المجتمع مجرد روبوتات مبرمجة 
حسب تصوراتها وأفكارها الاستحواذية. 
كما يكشف في «مسراته السود» عن طبيعة الأدوات البشرية للسلطة الاستبدادية متحرياً عن تواريخهم الشخصية الغامضة، وأصولهم العائلية الوضيعة، وحواضنهم البيئية الملوثة، ومنهم جلاد السلطة «مهاوي» وهو شخصية محورية مؤثرة في سير أحداث الرواية إذ نكتشف بأن هذا الجلاد ماهو إلا ثمرة فاسدة لزواج مصلحي بين عاهرة ملاهٍ وشخص مبتذل يتدرج في خدمة السلطة حتى يصبح جلاداً في سجونها، ويورث عمله إلى ابنه المفترض «مهاوي» الذي يعاني من مشكلة جسدية/ جنسية تتمثل في عنته وخوائه الجنسي، إذ تنعكس هذه المشكلة على مايمارسه من تعذيب وقهر بحق السجناء السياسيين، ويجد ضالته في سجين يدعى «حسان المعروف» يتميز بفحولة هائلة، مثّل لها الراوي بـ «اليد الثالثة/ جزءه الذكوري المميز» أودت به ثرثرته الفارغة إلى أن يودع في سجون السلطة، ويتهم جزافاً بمعارضته وتهديده للأمن الوطني، ويتعرض على يد «مهاوي» إلى 
أشدَّ وأحقر أنواع التعذيب والتنكيل إذ ينقل «مهاوي» كل مايعانيه من 
خواء جنسي وإذلال شخصي إلى «حسان المعروف» على شكل حفلات تعذيب مروعة كما لو أن ثمة ثأرا شخصيا عميقا بينه وبين «المعروف» الذي يتمتع بقوى جنسية خارقة، والذي تقوم 
فلسفته الحياتية على أن الجنس مبرر وجوده الوحيد، وعدا ذلك مجرد تفاصيل لا أهمية لها لمواصة عيش الحياة، فهو لاعلاقة له بالسياسة ولا بأية هموم أخرى، وماقاده إلى الوقوع بين يدي هذا الجلاد الخصي إلا حظه العاثر، ومرافقته لصديق يساري ثوري. 
ويكشف الفواز من خلال «مسراته السود» أن الأنظمة الاستبدادية تعاني من أمراض نفسية شتى، ومنها الوسواس القهري إذ تتخيل أشياءً لاوجود لها على أرض الواقع، وتقوم بتأويل الكلام والافعال بعيداً عن معانيها وسياقاتها الطبيعية، وفي الوقت نفسه لاتتقبل فكرة وجود أنداد ونظراء لها وعلى جميع المستويات الفكرية والثقافية والاجتماعية،  فهي الحقيقة المطلقة الكبرى وبقية الحقائق مجرد أوهام وأكاذيب، لذا، فهي تنظر عبر ممثلها «مهاوي» الجلاد إلى العلامة الفارقة التي يتميز بها «حسان المعروف» المتمثلة 
بـ «يده الثالثة» التي ترمز الى 
فحولته، على سبيل المثال، على أنها تهديد حقيقي للبروتوكول الأيديولوجي القائم على عدم 
قبول أي منافسة ومساس بجسدها الوجودي الذي يفور فحولة وعنفواناً مُفترضين، الأمر الذي يجب معالجته بأبشع صنوف التعذيب 
والقهر إلى درجة محق الذاكرة والاخصاء المعنوي وصولاً إلى الاخصاء الجسدي والتدمير الشخصي للضحية، إذ بعد أن يُدمر «حسان المعروف» تماماً، يرمى  خارج أسوار السجن، محطماً، مشوش الذاكرة، لايعلم إن كان مامرَّ به حقيقة أم خيالاً، وهل هو في كامل قواه العقلية أم تحول إلى مجنون فعلي. 
بعد أن يكشف الفواز عن ماهية السلطة الاستبدادية الإجرامية، يختتم  «مسرات السود» بفاصل ايهامي يتماهى مع حالة «حسان المعروف» المُبلبلة المشوشة إذ يقول: «قد يكون ماعاشه «حسان المعروف» 
وهماً، وكل ماقاله ودونه لاوجود له، وفي الواقع أن ضرورات الرواية هي التي جعلته يلجأ إلى أكثر مايثير الناس والقراء أي السلطة 
والجنس والتاريخ، لكن ذلك يمكن أن يكون حقيقياً، فالضحايا والمنافي كلها تدل على أن هناك سجوناً عميقة وسجانين يشبهون 
مهاوي» للإشارة بأن الحياة في 
ظل حكم الانظمة الجائرة ماهي إلا متاهة كبرى، إذ تختلط الأوراق ويصبح كل شيء غائماً بلا ملامح واضحة.