فصل جديد في رواية «أوليفر تويست» المكتشفات الأثرية تؤكد منظور «تشارلز ديكنز»

ثقافة 2021/07/05
...

 ديفيد ساكسبي
 ترجمة: مي اسماعيل
بعد ما يفوق القرنين على ولادة الروائي (تشارلز ديكنز)، قدمت المكتشفات الأثرية فصلا جديدا لروايته الشهيرة (أوليفر تويست). لم يستحضر سوى قلة من المؤلفين صورة الحياة في لندن العصر الفيكتوري كما فعل (تشارلز ديكنز)، خاصة في رواية (أوليفر تويست)، التي نشرت فصلا بعد فصل خلال سنوات 1839-1837.
بعد فترة طويلة من طلب الصبي بطل القصة التي حملت اسمه الحصول على كمية اضافية من العصيدة؛ تحولت القصة الى حكاية قتل دموي. يفر القاتل (بيل سايكس) من مسرح الجريمة شمال لندن.. ولكن الى أين؟ في نهاية المطاف كان هناك ملاذ واحد مناسب لشخصية قذرة مثله؛ وهي (جزيرة جيكوب) جنوب لندن؛ مكان قيل عنه أنه أسوأ حي فقير في لندن. هناك، وسط الخراب النتن؛ وصلت الرواية ذروتها حينما سقط القاتل في شراك غدره. 
قدم ديكنز في روايته تلك وصفا تصويريا مفصلا لجزيرة جيكوب؛ التي بدت وكأنها بشعة جدا بحيث لا يمكن أن تكون أي شيء آخر غير محض خيال. لكن جزيرة جيكوب كانت موجودة فعليا؛ فالى أي حد كانت دقة وصف ديكنز؟.
 
نشوء وسقوط جزيرة جيكوب
قاد كاتب المقال منذ عام 1996 بعثة تنقيبية لمتحف آثار لندن، للكشف عن موقع جزيرة جيكوب؛ من أحياء جنوب لندن الفقيرة بالغة القذارة في القرن التاسع عشر. كانت الحياة يوما جيدة في جزيرة جيكوب؛ الموقع الأصلي لطواحين سانت سافيير في العصور الوسطى، التي يملكها رهبان دير بيرموندسي. ازدهرت فيها التجارة والأعمال خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وركّز الجزء الأكبر من العمالة المحلية على صناعة الخشب وبناء المراكب. ولكن عند بدء القرن التاسع عشر انتقل الكثير من محاور الصناعة أسفل مجرى النهر الى روثرهيث؛ حيث جرى تعميق المراسي الحالية وتوسيعها. ولكونها باتت جزءًا من نظام (سيرري) التجاري للمرافئ فقد اجتذبت الحرف؛ خاصة تجارة الخشب. كان لذلك تأثير مدمر على حياة ساكني جزيرة جيكوب؛ إذ أُصيبت آفاق العمل بالشلل وأصبحت الاجور شحيحة والمهن غير مستقرة. وحينما زارها ديكنز كانت المنطقة قد صارت حيا فقيرا سيء السمعة. بحلول عقد 1830 جرى استبدال نظام توزيع المياه بمضخة من الرصاص، وحينها لم يقتصر الأمر على معاناة السكان ظروفا سيئة للتصريف الصحي؛ بل وقعوا ضحية التسمم بسبب كبريتيد الهيدروجين وهيدروكبريتات الأمونيا التي أنتجتها الماكنة الرصاصية وطواحين أخرى بالمنطقة. فباتت الحياة كما وصفها ديكنز وأثبتت ذلك التنقيبات الآثارية؛ بعيدة تماما عن الجودة. 
كتب ديكنز، في الفصل الخمسين من رواية (أوليفر- تويست): «خلف طرف المرفأ بمنطقة (ساوثوارك) تقع جزيرة جاكوب؛ محاطة بخندق موحل يبلغ عمقه نحو ستة أو ثمانية أقدام، وعرضه نحو خمسة عشر أو عشرين قدما حينما يرتفع المد، كان يسمى يوما (بركة الطاحون)؛ لكنه عُرِف في أيام هذه القصة بتسمية (خندق الحماقة)... في تلك الأوقات كان بإمكان الشخص الغريب الناظر من احدى الجسور الخشبية الملقاة عبر مسار الخندق الى (شارع الطاحون) أن يرى سكان المنازل الواقعة على جانبيه وهم يُدلون من أبوابهم الخلفية ونوافذهم الدلاء والأواني المنزلية بجميع أنواعها؛ ليرفعوا بها الماء الى أعلى...».
 
أسوأ من الوصف
يبدو واضحا من هذا الوصف أن جزيرة جيكوب؛ التي تغطي مساحة تقارب (130 متر  x130 متر) كانت محاطة بشكل أو آخر بسلسلة من المجاري المائية التي أقيمت عليها جسور خشبية. وكان أهمها نهر (نيكنجر)؛ أو (خندق الحماقة) كما جاء في الرواية. وبينما كانت تلك المجاري المائية ذات يوم شريان حياة المنطقة؛ فقد باتت (على وقت ديكنز) ملوثة ومميتة. نادرا ما كانت المياه تتدفق في تلك النهيرات، وكان الماء الآسن المحمل بالطين الراكد والمملوء بمياه الصرف الصحي هو المصدر الوحيد للمياه لسكان الجزيرة؛ للشرب والغسيل والطبخ. لذا فلا غرابة أن نصف وفيات الكوليرا أثناء الأوبئة التي عصف سنوات 1849 و1845 وقعت هناك (وفي منطقتين مجاورتين). فحازت جزيرة جيكوب بجدارة على ألقاب لعينة مثل (عاصمة الكوليرا) و(فينيسا المجاري). وفوق مجاري المياه الخطرة في (خندق الحماقة)؛ قامت منازل متداعية؛ وصفها ديكنز في الفصل الخمسين من روايته قائلا: «... وإذ تنتقل عيناه من عمليات الرفع (الموصوفة سابقا) الى المنازل ذاتها؛ ستتعاظم دهشته بالمنظر الموجود أمامه... شرفات خشبية واهنة مشتركة تتصل بظهور نصف درزينة من المنازل، تتخللها ثقوب يمكن من خلالها النظر إلى الوحل الموجود تحتها؛ وشبابيك مكسورة ومرقعة تنفذ منها قضبان لتجفيف البياضات التي لم توضع عليها قط؛ وغرف بالغة الصغر والقذارة والتقييد بحيث يبدو الهواء فيها ملوثا جدا، حتى بالنسبة للأوساخ والبؤس التي تظلله؛ وحجرات خشبية ناتئة فوق الطين، تهدد بالسقوط فيه (كما فعل بعضها)؛ وجدران ملوثة بالأوساخ وأساسات متحللة؛ كل قسمات الفقر البغيضة؛ كل إشارة مقرفة للقذارة والعفن والقمامة... كل هذه كانت زخارف ضفاف خندق الحماقة». وفقا لديكنز كان العديد من تلك المنازل خالية من السكان، ومشغولة لأغراض الجريمة؛ فيها أنفاق مخفية وشبابيك تطل على السطح، لتقود الى مخابئ مبتكرة. وضع ديكنز موقع اختباء القاتل (بيل سايكس) في شارع أدوارد؛ ضمن مبنى ميتكالف على مسار جدول الطاحون، الى الجنوب من جزيرة جاكوب.. لقد كانت تلك الجزيرة بالفعل؛ كما أوضح ديكنز بإسهاب، أسوأ مكان للعيش في لندن؛ ولعلها أسوأ حتى من ذلك.. وهذا ما أثبتته بالفعل الحملات التنقيبية. 
* مجلة «كيرنت آركيولوجي»