صناعة المعرفة

ثقافة 2021/07/05
...

علي حسن الفواز
 
صناعة المعرفة من أكثر الصناعات إثارة للجدل، والاختلاف وتعدد وجهات النظر، فالبعض ينظر لها وكأنها مجال أدبي وفلسفي محدد، ويكتفي بما هو تجريدي فيها، والبعض الآخر يحصرها في التوصيف «العلموي» ليجعلها مجالا للتصورات والأفكار التي لا تجد ارضا لتداولها واستعمالها، وبالتالي يهرب «علماؤها» ومبدعوها الى الآخر الذي يملك الأرض والمؤسسة والمال والوظائف والقدرة على الاستحواذ، لكن الأخطر هو تحولها الى مجال شعبوي، حيث الوقوع في فخ السذاجة والتسطيح وتعطيل ارادة الوعي في ادراك اسباب الجهل والفساد والفشل.
المعرفة في ابسط تعريفاتها هي حيازة الفهم، وتوظيف هذا الفهم في صياغة سؤال الوعي، وفي تطوير ادوات العمل، وفي تحسين وجود الانسان في بيئته، وفي مجال عمله، وفي فرص تطوره وتعلمه، وفي تنمية امكاناته المادية والرمزية على مستوى الوفرة، وعلى مستوى استثمار طاقات العلم والادب والجمال. هذا ما يجعلنا ندرك أن المعرفة صناعة، وجهد حقيقي، وتحتاج الى التخطيط والتنظيم والرقابة والتقييم، وهي الشروط الاساسية في نجاح النظم الادارية، وفي تأمين خططها وبرامجها ومشاريعها الستراتيجية التي تكفل النجاح في ادارة ما هو معرفي في ملفات السياسة والاقتصاد والعلم والتعليم والفن والاعلام والصحة وغيرها، وفي التعاطي مع الأزمات الكبرى التي تهدد الوجود والهوية والسيادة والتعايش السلمي في المجتمع. ضعف صناعة المعرفة في أوطاننا يرتبط بجملة من المشكلات الكبرى، اولها ضعف البنية السياسية، اي البيئة المسؤولة عن الحماية، وعن التخطيط والتمويل الخاصين بقرارات انتاج المعرفة في المؤسسة، فضلا عن ضعف البنية الاقتصادية، اي ما يتعلق بتنظيم الثروة والتخطيط لادارتها الناجعة وجعلها جزءا من النظام المؤسسي للتنمية. وكذلك ضعف البنية التعليمية وهي الجوهر الذي تؤسس عليها قواعد النمو المعرفي واسس التنمية البشرية، إذ لا تنمية من دون تعليم، لكن هذا التعليم للأسف لم ينفصل عن خطاب السياسة وخطاب الاقتصاد، فالاول يُخضعه لشروطه الايديولوجية، والثاني يجعله جزءا من عمومية تخطيط الميزانيات العامة، وبالتالي قصورا في تأدية مهامه ومسؤولياته. ومن هناك ندرك خطورة تعويم النظر الى مفهوم «صناعة المعرفة» وتجزئته، إذ سنجد أنفسنا أمام مقاربات خلافية، كثيرا ما تتعاطى مع هذا المفهوم من خلال مصالحها، ومن خلال ما كرسته مهيمنات نظم الادارات المركزية سياسيا وايديولوجيا واقتصاديا واداريا، حيث لا وجود حقيقيا لمؤسسات صناعة المعرفة، لاسيما ما يتعلق بمراكز البحث العلمي والتأهيل المهني والاكاديمي للبنى الجامعية والدراسات العليا، وفي ادخال صناعة المعرفة كجزء من السياسة العامة، على مستوى التخطيط والدعم، وعلى مستوى دعم المجال الانتاجي لمؤسسات تلك الصناعة، بدءا من صناعة السينما والمسرح وليس انتهاء بصناعة الكتاب، وكذلك على مستوى ادراجها ضمن برامج ومشاريع الاتفاقات التي تُعقد مع الدول ومع المنظمات العالمية، ودعم المشاركات المعرفية في الندوات والمهرجانات وورش العمل وغيرها.