مفكّرات وفيلسوفات خلف ستار الزمن

ثقافة 2021/07/06
...

 د. نصير جابر 
 
أزعم وبكثير من اليقين المسوّر والمدعوم بمنطق تفترضه طبائع الأشياء ومحددات التفكير السليم وتأمل طويل في سيرة الفكر ومسيرته أن المرأة الفيلسوفة الحكيمة المنتجة للفكر والنساجة للمعرفة كانت تضارع الرجل الفيلسوف وتزاحمه في أحيان كثيرة كما وكيفا.
 وكانت –ولعهود طويلة- هي بؤرة الحركة الفكرية وهذا الفرض طبعا تدعمه مكانة المرأة الحقيقية والرمزية في الهيكل التراتبي للبنية العقلية في العالم القديم وحضورها الفعّال في اللغة ومنتجاتها التي وصلت إلينا ولكن  دورها  واسمها اللامع طمس وغيّب وبدل وزيّف تحت سلطة قمع ذكوري مُنظم وجائر حاول ويحاول أن يجعل الساحة فارغة ومتاحة له فقط  فهو لا يطيق منافسة من جنس آخر، منافسة قد تقلب الكفة لصالحها ولكن على الرغم من كل ذلك فقد ترشحت أسماء كثيرة عبر التاريخ
تبيّن. 
وتشير إلى تلك السلالة الحكمية البليغة الواعية وتتبع وقائع التاريخ  المسجّل المدون يسهم في الكشف عن  قائمة من المفكرات والشاعرات الفيلسوفات اللواتي بدأن الحفر المعرفي بدقة ودأب ومنهن الشاعرة والكاهنة (إنخيدوانا) التي عاشت قبل نحو 4300 سنة وهي أميرة وابنة ملك شهير هو سرجون الأكدي (حكم منذ عام 2334 حتى
2284 ق.م).       
أنخيدوانا هذه وصلت إلى أعلى رتبة كهنوتية في الألف الثالث قبل الميلاد، وهي أول أميرة تحتل مركز الكهانة العليا لإله القمر (نانا) ويجب أن ننتبه إلى أن مفردة (شاعرة) كانت تعني مفكرة أو فيلسوفة وليست مجرد امرأة تنظم كلاما في العواطف والهيام والهجر وإرثها المعروف تحت اسم (تراتيل المعبد السومري) يعد أولى المحاولات المعروفة في الإلهيات. 
بعد عهود طويلة تظهر في صفحات التاريخ (هيباتيا السكندرية) التي عاشت حياة قصيرة مأساوية (360م-415م) انتهت بإعدامها سلخا وحرقا وجرّا في الطرقات على يد جموع الرعاع المناوئين لها ولفلسفتها وأفكارها  النيرة وطبعا بتهمة الإلحاد والسحر والهرطقة تلك التهم الجاهزة التي سنراها تتكرّر في محاكم التفتيش في القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلادي في فترة مظلمة من القمع الفكري لا نظير لها لوأد أي فكرة جديدة ممكن أن تشعل فتيلة التنوير وكانت العقوبة الحرق لمحو أي أثر ممكن أن يبقى من الفكرة وصاحبها ولنا أن نسأل كم من المشاريع التنويرية قد أحرقت بهذه التهمة الزائفة، وكم من المفكرات المتنورات صرن رمادا تذروه رياح الجهل والهمجية. 
كما لنا أن نسأل بكثير من الموضوعية عن الأصل الحقيقي الذي استلهم منه كاتب (ألف ليلة وليلة) شخصية الجارية (تودد) التي تظهر وكأنها انسكلوبيديا معاصرة تمشي على قدمين تناظر كل أهل فن بفنهم فتبزهم جميعا وترجعهم خائبين خاسرين فمن هي هذه السيدة  ذات التعليم العالي  والثقافة الحرّة الانسانية.
وكيف نجت من التنميط الجاهز وعبرت بنجاح من مساحة الجسد الاغوائي المفعم بالجمال إلى العقل الحركي العلمي المنتشي بشهوة المعرفة والفكر والحكمة. 
هل كانت ظاهرة موجودة أراد السارد أن يلمح لها أم أنها مجرد شطحة خيال خصب.؟
إنّ افتراضنا هذا ليس مجرد محاولة عاطفية في الانصاف بقدر ما هو توغل وحفر عن جذور حقيقة تدعمها أدلة كثيرة.. أدلة تحتاج إلى بحث مستفيض ووقفات جادة وتحقيق دقيق لتظهر أسس فكر منتج من عقل المرأة الميّال إلى الدقة والتثبّت من كل التفاصيل. هذا الفكر المغيب والغائب تاريخيا خلف أستار وأسرار طبقية ذكورية ماتزال حاضرة حتى
الآن.