سهم أخير.. عبد الزهرة زكي

ثقافة 2021/07/06
...

 ناجح المعموري 
 
تعددت في هذا النص القصير أصوات سردية، صوت الفقير (1) ورقم (2) الإشارة للراوي ورقم (3) معاودة الصوت الأول/ صوت الفقير أيضا. رقم (4) صوت خارجي، مراقب، يعرف كل شيء عن مساعي الفقير في تكرارات إطلاق الأسهم.
كلام الراوي الخارجي المتجاور مع صوت الأنا/ المضمون يفضي الى مفهوم التجاور والمشاركة وإياه بعينين تريان المشهد وقال: 
سهماً ثانيا وثالثا ورابعاً. 
ويعود الى قوسه 
الى سهام لم يبق له منها غير سهم أخير 
ويعاود الصوت الأول مركزه في النص/ مقطع (5)
قالها دفعة نهائية وقد كلت يداه.
التعب والكلل، هما مركز النص وقوة السرد الشعري فيه. فإذا أردنا عزل الاستهلال الذي بدا فاتحة في النص، لكنه ليس كذلك في بنية السرد، فإن مقطع (2) هو استهلال معزول، أو مدفوع الى مكانه في النص، وبالإمكان عبر لعبة السرد التقليدية أن يكون هو البداية النصية وإذا جاز لي هذا الافتراض فإن قول الفقير وكلل يديه، هما الاستهلال ونهاية النص. إلا أنني أعتقد بأن انحراف الاستهلال متأتٍ من ضرورة فنية، تشوّفية، استدراجية للقارئ.
«سهم أخير» نص تكررت المفردات فيه على الرغم من قصره وهذا ملمح فني جديد في تجربته الشعرية. النصوص القصيرة لديه تفضي الى اتساع دلالي يعوض حجم النص. والحجم لديه لا يشكل مقياساً وإنما الطاقة التعبيرية هي المعيار الذي يفضي الى تشكلات النص وعمق خصائصه وبنية العنوان على البنى الصوتية داخل النص. وإنها إيقاعية في تكررها كوحدة متناظرة، بالضرورة تكون لها صوتية وإيقاع إلا أنه إيقاع رزين. تكرر قصدي كما قلت في الكتابة الآن، لأنه ـ التكرر ـ لم يكن شكلاً تداولياً أو بعضاً من المرويّات والشفاهيات التي أنتجتها مرحلة العقل الشفاهي والتي ميزت عناصرها العديدة بالنمط الكتابي المعروف والمألوف لنا في المدونات الحضارية الأخرى. ولعل الشعر العراقي أكثرها وضوحا وتجسيداً للرأي أعلاه. 
وباختصار شديد فإن الشعر السومري والأكدي لهما تأثير كبير في هذه التجربة الشعرية المثيرة للانتباه والقلق أيضاً. وعودة الى النصوص القديمة سنتوصل الى قناعة سريعة بالشكل الفني الذي كان محكوماً بعوامل ذاتية وموضوعية والخاضع لوظائف مرتبطة بمرحلة تاريخية محددة، وهذا أمر معروف لمتابعي تاريخ الحضارات الشرقية وللمطلعين على النصوص الشعرية في سومر/ مصر/ التوراة/ ستجد بأن تماثلاً واضحاً في النصوص الشعرية وكأنها خاضعة كلياً لضبط فني متواتر، وأعتقد بأن الأسباب وراء ذلك كما قلت هي ذاتية ولها علاقة مهمة مع دوافعها الوظائفية.
حازت نصوص زكي خاصيات الشعر العراقي القديم وتشربتها بشكل لائق، وحيازة المكونات الفنية ليس شرطاً لإنتاج مثل هذا النصوص وإنما بالأساس اكتساب خبرة لخلق نسقية النص المفضية الى التشكل النهائي بالطريقة التي تبدّت في نصوص الشاعر، إن البنية الصوتية في «سهم أخير» مثلاً متأتية من التكرر في الاستهلال:
ليس/ هذا/ عدلاً 
ليس هذا/ من العدل/ بشيء
ثلاثة مفردات تكررت، لكن اختراقها يكون بالمفردة الأخيرة «بشيء» والتي لعبت على المعنى، أما صوتية الاستهلال فهي متماثلة ويأخذ التكرار في هذا النص شكلاً تراتبياً، عددياً، لكنه استطاع من خلال تراتبية العدد إخفاء تصويت فيه سحرية للمتلقي مثلما فيه فيض دلالي انفتح عليه النص:
سهماً ثانيا وثالثا ورابعاً. 
ويعود الى قوسه 
إلى سهام لم يبق له منها غير سهم أخير 
ويلاحظ في هذا المقطع تكرر مفردة «سهم» ثلاثة مرات. في السطر الأول مرة واحدة هي افتتاح السطر وفي الثاني كمون السهم ضمناً في مفردة القوس واقتران السهم معها، وفي السطر الثالث، تكررت المفردة مرتين وكأن الشاعر تعمد الاستعاضة بالمكمل الدلالي للسهم وهو القوس في السطر الثاني، لأنه عوض عن غيابه ـ السهم ـ فدفع به متكرراً مرتين في السطر الأخير.
ينطوي هذا المقطع من النص على فراغات، ربما هي مقترحات التلقي ومنها هل بإمكان صياد خارج لمواجهة قضية كبرى أن يأخذ معه خمسة سهام؟ وهل رحلته قصيرة؟ هذا ما لم يشر إليه النص، بل فتح أمام القراءة افتراضات أكبر وهي أن عدد السهام كثير والعددية مختزلة لأسباب فنية ودلالية، وهكذا انفتح النص أمام القراءة والتأويل ولكن ما هي الأسباب الكامنة وراء شطب مفردة أولاً على سبيل المثال ووضع النقاط بعد رابعاً؟ هل هو النشاز الايقاعي والصوتي لمفردة أولاً وغياب التناظر معها صوتياً أو ثقل الجزء الأول من مفردة «أولاً»؟ أنا أعتقد أن العدد مفتوح وغير محدد ومن هذا جاءت متاعب الصياد التي أعلن عنها منذ لحظة فاتحة النص التي أجرى عليها تغييراً على الوحدات المكونة للسياق الكلي فيه وأعاد قلب نظامية الأنساق الداخلية، وأصعد النهاية استهلالاً لدوافع فنية واضحة وليست فكرية. ومن تلك الدوافع محاولة عبد الزهرة إخضاع نصه «سهم أخير» الى تشوفية سردية، مستفيداً من أنماط القص التقليدي/ الحكائي وما ينطوي عليه من قدرات تأثيرية في جذب المتلقي والإبقاء عليه، ولذا كان استهلال النص جاذبا، منطويا على شحنات من الجزع والتعب وسيادة البطلان «ليس هذا من العدل بشيء».
هذا ما قاله الفقير وقد كلّت يداه، وكل قوسه/ ولم يكن الظلام/ والمقطع هذا، هو الثاني في النص بالتراتبية، لكنه في الإفصاح يكشف بأنه تسلسلياً هو المقطع الخامس، ولكن هذا نتاج الخبرة الفنية للشاعر والمهارة في التلاعب بالوحدات الداخلية للنص، حتى ينجح الشاعر في إنتاج سياق سردي، بإمكانه التحكم بالمتلقي وينطوي على طاقة استباقية وكأنه ـ الشاعر ـ أراد له مستوى حكواتياً. ولأن يدي الفقير تعبتا، وتعب قوسه يضيئان كثرة السهام لأن قوس الفقير تعب من التسديدات السهمية.. كل هذا وظل الظلام مهيمناً، راسخاً شمولياً. وبهذا المقطع القصير يتسع التأويل في هذا النص ويغادر حتى الأسطورة الاتصالية بين الذكورة والأنوثة. الذكورة مرموزاً لها بالسهم والأنوثة معبراً عنها بالظلام.. 
لأن المتصوفة تعاملوا مع المناطق، أو البؤر المظلمة بوصفها فرجاً أنثوياً، وتسديد السهم اتصال إدخالي بين خطاب وآخر، بين نظام وثان.. هو اندماج الثنائية وتحولها الى كل واحد.. وما يثير في هذا النص غياب المرأة بوصفها الطرف الثنائي/ الجنس واستعاض عنها بالعاصفة، البديل الرمزي عن الأنثى.. وقلب العاصفة، هو بؤرة الأنوثة وفرجها.. لقد حصلت إزاحة للمرأة في قاموسية هذا النص بينما نجدها ذات تمركز قوي وشائع في نصوصه الأخرى والكثيرة وأن الاهتمام المركزي بموضوعية الأنوثة وتحققات الاتصال الادخالي معها، اتصال بعيد عن الاستهلاك والنزوات (كتاب الساحر) وربما هذه التأويلية أقوى القراءات الدالة على العلاقة الثنائية بين الرجل والمرأة المرموز لها بالعاصفة وقلبها.