قراءة في ديوان «مكابدات الحافي» للشاعر عبد الأمير خليل

ثقافة 2021/07/07
...

 أ.د. سعد التميمي 
  يعكس التداخل النصي البعد المعرفي للنص في علاقته بغيره من النصوص، لتشكل مرجعية ينطلق منها المتلقي في فك شفرات النص والوقوف عند جمالياته، وبذلك يحدد التقاطع بين النص والنصوص الأخرى قيمة النص ومدى تأثيره، وكان باختين قد وقف عند التناص من خلال الحوارية، وعده مجموعة من المتواليات المتجاورة والمتحاورة التي تقوم على تقاطع خطابات ينتج عنه نص جديد ينطلق من مرجعيات ثقافية متنوعة.  
وعززت كريستيفيا ذلك منطلقة مما يطرحه النقد الماركسي في تعالق النص بالواقع في مجالاته الاجتماعية والتاريخية، وهو عندها يؤدي وظيفة أيديولوجية في مستويات النص المختلفة لارتباطه بالجانب الفكري ، ونظر لهذا المصطلح كل من جيرار جينييت  وريفاتير ورولان بارت الذي يرى الطبيعة التناصية للعمل الأدبي تقود القارئ إلى علاقات نصّية جديدة، وحتمية التداخل النصي جعلته يطرح مقولة (موت المؤلف)، فالتداخل النصي فاعل في استنطاق مرجعيات العمل الأدبي، والكشف عن  أصوله من خلال استثمار توقعات المتلقي، ولما كانت اللغة الشعرية تتصف بتعددية الدلالة وانطلاقها من الظاهر الى المستتر المجازي كما يسميه الجرجاني بمعنى المعنى، فإن انفتاحها على خطابات أخرى حتمي
ومؤثر.
ويربط جيرار جنييت التداخل النصي الذي يقوم على التواجد اللغوي لنصّ في نصّ آخر، بالنّص والعمل الأدبي ، ويرى د.حاتم الصكر أن التناص ضروري لانضاج تجربة الشاعر فلا  يمكن الاكتفاء  بالموهبة والقدرات الذاتية   فلا يوجد نصّ يخلو من حضور أجزاء أو مقاطع من نصوص أخرى، وابرز أشكال هذا الحضور، الاقتباسات والأقوال مما يحقق التفاعل بين القارئ ومرجعيات النص الذي يقرؤه بفضل قراءاته وتأويلاته.
ولما كان التداخل النصي يعطي اضافة جديدة للقصيدة فإن الشاعر عبد الامير خليل يتخذه بنية مؤسسة في ديوانه الأخير (مكابدات الحافي)، خليل، الذي تضمن (13) قصيدة، فتارة يأتي بشكل اشارة بسطة يستدعيها السياق، وتارة أخرى يكون بنية مؤسسة وقاعدة تنطلق منها القصيدة يبدأ من العنوان الذي يمثل عتبة تقود المتلقي الى مداخل القصيدة وتشكلاتها، ثم يتغلغل في بنية القصيدة ويوجه دلالاتها، وهذا ما نجده في معظم قصائد الديوان، وهذا ما نجده في تنصيص بشر الحافي الصوفي الذي اتخذه الشاعر قناعا يتحرك من خلال للتعبير عن معاناته في ظل واقع متهالك يبعث الحزن والألم، ولما كانت هذه الشخصية اتسمت بالتحول على مستوى الرؤى، فإن الشاعر عمد الى تنصيصها في قصيدة (مكابدات الحافي) التي يتقاطع فيها صوت الشاعر مع صوت بشر الحافي ثم يتشظى الى شخصيات عمد الى تنصيصها (موسى وعيسى ونيرودا وابن الفارض وكثير والمجنون والسياب وأدونيس)، اذ يتخذ من هذه الشخصيات ببعدها الإنساني رموزا للتعبير عن معاناته فيقول : 
 
أنا بشر الحافي 
في السوق أقوم وأَقعد 
ودثاري أوزار بالية 
ظمآنا أكرع من صدف البشرى 
وشقيّا أغرف آمالا وخطايا 
لا مال في كفي ينصرني 
لا غررٌ في رأسي ووصايا
تلقفني من بئر ظنوني 
وتدحرجني كمسيح في حوْمات
قطاف.
فالشاعر بعد تنصيصه للحافي (أنا الحافي) ينطلق من فضاء هذه الشخصية التي تقوم على التحول والتجوال للتعبير عن معانته في صور تقوم على التضاد تارة مثل (اقوم واقعد، ظمآنا أكرع، آمالا وخطايا) وعلى الانزياح تارة أخرى مثل (دثاري أوزار بالية، صدف البشرى، بئر ظنوني، حومات قطاف)، فالصور التي ينحتها الشاعر بالتضاد تعبر عن الحيرة والضياع الذي يجثم على أحلامه، أما الانزياح فإنه يخلق صورا معاناة الشاعر وهمومه، ومثلما بدأ المقطع بتنصيص الحافي فإنه يختمه بتنصيص المسيح في صور تشبيهية تعكس المعاناة في عالم يخيم عليه الاضطراب، وقد يأتي التنصيص من خلال الاقتباس المباشر الذي يعطي النص زخما دلاليا في
قوله:    
 
أَنا بشرُ الحافي 
أتلو ما بين صباحي ومسائي 
(إِذا زُلزلت الأرض زلزالها)
فأكلم عيسى في المهد صبيّا 
وأخاصرُ موسى عند تخوم الطور 
وأكبّ على نعل أبي القاسم
جنديا في غمرات التيهور. 
 
فهذا الاقتباس يخدم الفكرة المتواترة في الديوان المتمثلة بالرغبة في التغير وحتميته، وهذا ما تحيل إليه الآية القرآنية، فضلا عن الجمل الشعرية التالية التي ينصص فيها الأنبياء عيسى وموسى ومحمد (عليهم السلام) في سياقها القرآني، وفي قصيدة أخرى يقتبس بيتين للحلاج الذي يرمز الى أزمة الفكر والتحرر من القيود التي يكابد منها الشاعر فيقول :
 
وأنا الظامئُ للقيا،
وسرّي
أن أرى الحلاج جوّاباً 
يصيح:
(ما يفعل العبد والأَقدار جارية 
عليه في كل حال أيّها الرّائي
ألقاه في اليمّ مكتوفاً وقال له:
إيّاك إِيّاك ان تبتلّ بالماء)
فشطوط الكرخِ عرس
واحتراق
 
 فالشاعر هنا يعبر من خلال تنصيص بيتي الحلاج بالاقتباس عن واقع مضطرب مفروض من دون وجود إرادة تقوى على تغييره، وهذا الاقتباس جاء جوابا لسؤال وحيرة الشاعر، وهذا ما تؤكده الجملة الشعرية اللاحقة عندما اسند الصورة القائمة على التضاد (عرس واحتراق) التي تدل على الاضطراب الى (شطوط الكرخ)، وهذا يتكرر في قصيدة (جواد سليم يعود من موته) اذ يقول  :
 
ليهنك إنني في ساحة 
التحرير
أمرّغ وجهي المقدود بالحناء
والرّجوى
وأقرأ في بقايا عمرنا
المأسور:
(موطني.. موطني
الجلال والجمال
والسناء والبهاء
في رُباك.. في رُباك)
فيأتي صوتك الأبهى بطيئاً
مثل آهات تلاشت في تخوم النصب
أو في بهجة التصوير
أنا جواد بن سليم 
 
إذ يقتبس النشيد الوطني للتعبير عن الارتباط بالوطن والتطلع للأمل بالجمال والبهاء، وقبل ذلك ينصص جواد سليم في العنوان بوصفه رمزا للتحرر من كل أشكال التسلط وانتهاك الحقوق والحريات، وفي مطلع القصيدة يقدم القرابين في حضرة نصب الحرية ليعود الصدى أنا جواد سليم. 
ففي هذه القصيدة وغيرها تتجلى قدرة الشاعر في التماهي مع الاخر الذي يحضر بقوة في القصيدة من خلال اللغة التي تتفجر بالدلالات وتجري في قوالب من الانزياحات والمفارقات، التي يتفاعل فيها نص الشاعر بالنصوص التي يتقاطع معها الى مرحلة يصعب فيها الفصل بينهما، وهذا هو أعلى تقنيات التداخل النصي الذي عبر عنه باختين
 بالحوارية.